بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

حول "مؤتمر قصيدة النثر العربية" في بيروت


عقل عويط


مداخلة الشاعر اللبناني عقل عويط في مؤتمر قصيدة النثر في الجامعة الاميركية في بيروت


هل من حاجة الى مؤتمر حول قصيدة النثر؟ يهدف هذا السؤال الى مناقشة الدوران النقدي العربي المستمر حول مسألة قصيدة النثر، ووقوع هذه المناقشة، في الغالب الأعم، في الحلقة المفرغة، منذ الإعلان الأول عن قصيدة نثر عربية حتى هذا المؤتمر بالذات. بل يهدف السؤال حصراً الى حمل أعضاء المؤتمر الكرام على المساهمة في إخراج النقاش النقدي حول هذه المسألة من السفسطة التاريخية واللفظية المحزنة في اتجاه القاء الضوء الأكاديمي والبحثي على التجارب والخبرات التي أنتجتها قصيدة النثر العربية طوال الخمسين عاماً المنصرمة.

أيها الأصدقاء،

لم يتقدم النقاش النقدي العربي منذ الستينات خطوة جوهرية واحدة في اتجاه الغوص على شعريات النثر الجديدة، لدرس بناها وأشكالها وإيقاعاتها ورؤاها، وتفكيك مكوّناتها الخلاّقة وكشف احتمالاتها التأويلية، والخروج بخلاصات موضوعية هادئة في شأنها. فالنقاش الخاطىء والعقيم نفسه، لا يزال دائراً، من حين الى آخر، اتهاماً ودفاعاً وهجوماً، في شأن شعرية النثر والقصيدة الموزونة، والتضاد السلبي بينهما. وهو نقاش لا معنى له، ويصبّ خارج الهمّ الأدبي الخلاّق عموماً، والهمّ الشعري خصوصاً، وأيضاً خارج كل منهج نقدي حديث.
أقصد أن هذا النقاش كان ولا يزال في غالبه الأعمّ، محض ثرثرات مضجرة، يتبادله أشخاص وجماعات أدبيون، ويحيا خارج حركية التاريخ الأدبي وتحولاته وتجاربه بالذات. فهذا نقاش لم يندرج يوماً في مجرى ديناميات شعر النثر، بل هو كان يراها تتقدم وتتبلور في قصائد ونصوص، في حين أنه، هو، يظل واقفاً في صنميته وزمنيته المجمدة.
ففي حين كان ينبغي للنقاد والأكاديميين، أن يصرفوا علومهم ومعارفهم ومواهبهم في الانكباب على الشعري نفسه، في نصوصه المكتوبة، أشكالاً وأنواعاً، والغوص عليها تحليلاً وتفكيكاً واستخلاصاً، رأينا أن أكثر ما كتبه باحثون وشعراء ومنظّرون من هنا وهناك، لا يزال يدور في الموضع نفسه، وحول الأفكار نفسها، مراوحاً، متقوقعاً، هاذراً، كأن المسألة الشعرية هي مسألة وزن ولا وزن، او كأن المسألة هي مسألة هذا الشكل أو ذاك. ولم يتبادر الى الذهنية النقدية أن تفكّر في شعرية الكتابة، وأن تدرس هذه الشعرية، وان تسافر في نصوصها وتجاربها واختباراتها، وأن تضيء عليها، بالسلب والإيجاب.
وإذا كان علينا في هذا المؤتمر أن نصف حركية النقد العربي، طوال الخمسين عاماً الأخيرة، وان نستخلص أفكاراً مما جرى، بل ومما لا يزال يجري، لكان علينا في هذه الجلسات أن نستخلص الآتي: لا يزال الخروج التاريخي لرواد الحداثة العربية على قصيدة الوزن، ومناداتهم بقصيدة مخالفة، أطلق عليها يومذاك تسمية قصيدة النثر، تيمناً بالتسمية المعروفة في الشعر الفرنسي ثم الأنكلوفوني، لا يزال هذا الخروج هو الموضوع.
قصدي من هذا الوصف أن أشير الى أن الزمن التاريخي والأدبي العربي – وأضيف اليه الزمن العقلي – أن هذا الزمن لا يزال متجمداً، متوقفاً، غير آبه للسيرورات ولا للصيرورات التاريخية والأدبية والعقلية للتاريخ والأدب والعقل على السواء. وهذا يشبه، سلباً وإيجاباً، وفي غالبيته، العقليات والأفكار العربية التي تراوح مكانها حول تقسيم فلسطين والامبريالية والصهيونية وحرب حزيران وحرب تشرين أو الزمن الأندلسي والانهيار العربي، أو عصر النهضة، أو عصر الانحطاط، وسواها.

أيها السيدات والسادة،


أجد نفسي مضطراً الى أن أحدد، الخلاصة الوصفية للخمسين عاماً الفائتة، ومفادها ان نقدنا ماضوي في غالبيته، متجمّد، مثل زمننا العربي، وعقلنا العربي بالذات، بل أكاد أقول إن بعضنا، أكثرنا أو أقلنا، ماضويون في حداثتنا، وما بعد حداثتنا. كأن هذا الماضي الأدبي التاريخي وحده دون سواه، هو الذي يكاد يأكلنا ويشربنا ويلتهمنا ويمتص دماءنا وأرواحنا، فكأننا لا نجد مبتغانا إلاّ في الإستغراق المفجع في هذا الماضي.
وأيّ ماضٍ!
لقد بدا لي في الجهة المقابلة، أي في جهة التجارب الشعرية العربية، طوال الخمسين عاماً الماضية، وعلى النقيض من المراوحات التي لا تزال تدور في فلكها الآراء والنظريات النقدية والحروب والمناقشات، بدا لي أولاً أن قصيدة النثر هي، في أكثر الأحيان، كنظام للكتابة، إسم لغير مسمّى. والأحرى أن أقول إنها جزء في حين أن كتابة شعر النثر هي كل. وهذا من باب تسمية كل باسم الجزء.
أقصد الآتي: بين الأساس النظري والتطبيقي الذي استلهمته قصيدة النثر العربية، وقامت عليه، مستلاً من نظريات سوزان برنار في هذا الصدد، ومن تجارب الشعراء الغربيين، وأقترح على سبيل المثال كتاب "غاسبار الليل" للشاعر الويزيوس برتران نموذجاً، ثم محاضرة يوسف الخال عن "مستقبل الشعر في لبنان"، في "الندوة اللبنانية"، عام 1957، ثم مقالة أدونيس، "في قصيدة النثر"، العدد 14 من مجلة "شعر"، ربيع 1960، ثم مقدمة "لن" لأنسي الحاج، ثم النماذج الشعرية التي اختارها عبد القادر الجنابي في كتابه "الأفعى بلا رأس ولا ذيل/ أنطولوجيا قصيدة النثر الفرنسية"، أقول بين هذا الأساس النظري والتطبيقي الغربي، وتداعياته العربية، وبين وقائع النصوص العربية المكتوبة، ثمة خروج بنيوي ومنهجي وشكلي وهندسي وإيقاعي على التسمية في معناها الحصري الأول، وأكاد أصل الى استنتاج مفاده ان لا علاقة سوى ضئيلة بين التسمية الأصلية والإنتاجات الشعرية العربية في غالبها الأعمّ. وأنا ألفت لفتاً وصفياً وعلمياً الى ذلك، لا انتقاصاً ولا احتجاجاً ولا اتهاماً، ولا كبيان للقيمة، إنما توضيحاً ووضعاً لبعض المعايير والسلالم النقدية في نصابها.
بناء على هذا الذهاب، وكلٌّ في طريق، أرى أن الكتابة الشعرية العربية كانت، ولا تزال، تحيا وتنمو وتذهب مذاهب شتى في معزل عن النظرية النقدية الغربية نفسها. بل هي تفعل ذلك، خارجةً على المعايير العربية الأولى لتسمية قصيدة النثر ولنصوصها. أصف ذلك، طبعاً، من دون ان أطلق أحكام قيمة على هذه الكتابات سلباً أو إيجاباً.
فإذا كانت حال شعر النثر العربي، وقصائده، هي هذه الأحوال والأشكال والقصائد التي لا حصر لها، ولا يمكن أن تنتظم تحت مبنى شكلي، أو شكلاني، له قواماته الرؤيوية والإيقاعية الهندسية والجغرافية والبصرية والمشهدية، فهل نستطيع أن نجعلها تحت سقف تسمية قصيدة النثر التاريخية؟
الجواب، لا قطعاً. وبناء عليه، استطراداً، إذا كان لا بدّ من إشكالية لهذا المؤتمر فليس له أن يتخذ اسماً لإشكاليته كالاسم الذي وضعه المنظِّمون.
النثر، شعر النثر، وسأعيّن له هذه التسمية تحديداً، فأقول قصائده لا قصيدته، نصوصه لا نصّه، هذا النثر هو البطل بلا منازع. ولا حدود لبطولته الشعرية، وقد تكون بطولة طاعنة أو مطعونة، قاتلة أو مقتولة، رعناء أو حكيمة، مريضة أو معافاة، ولا همّ. ولا حرج على الإطلاق.
هذا هو النثر البطل، لكنه ليس البطل الشعري الصنم. فهو عرضة للخلع في كل ماضٍ وفي كل حاضر وفي كل مستقبل. وأنا أخلعه الآن لأعود فأبحث عن بديل يستوعبه ويتخطاه.
النثر البطل. نعم. بأقنعته. ومراياه. وبوجوهه جميعها. بأيّ اسم أسمّيه؟ بل هل من حاجة لأسمّيه؟ وأيضاً هل من حاجة لمؤتمر بديهي، وكهذا المؤتمر؟
أعتقد أن لا. وأقول هذا قطعاً. إذاً، ليُسحَب البساط نهائياً من تحت الطاولة السفسطائية العربية التي لا يزال الجالسون حولها، والمتنطحون الى الجلوس، يصولون ويجولون، تنظيراً مفجعاً منذ خمسين عاماً وهلمّ.
نحن الآن في زمن التكنولوجيا الفائقة والتي لا سقف لها. وأكاد أقول في زمن يعيد النظر في الحياة نفسها، وفي وسائط التعبير، لغاتٍ وإيقاعاتٍ ووجوداً وعيشاً وأنظمة تفكير وممارسة.
هل قصيدة النثر تلك، أو هل قصائد النثر هذه، هي لهذا الزمن؟ وشعر النثر هل يستطيع أن يجد له محلاً في هذا الزمن؟ أما السؤال الأشد حرجاً فهو: هل من قصيدة لهذا الزمن؟ وما هي؟ وكيف؟
ولا جواب يكفي. لأننا ربما نعيش بين زمنين، بين الزمن الذين نملكه ويملكنا وهو آيل الى أن يصير ماضياً وماضوياً، والزمن الذي يتشكل بإيقاعات وأشكال ورؤى وأدمغة لا حدود لتغيّراتها. ولا قدرات لغوية على اللحاق بهذه التغيّرات.
هل أجد بعضنا يقول ليس من لغة ماثلة بيننا الآن هي ابنة مستقبلية لهذا الزمن، تصلح له، وتعبّر عنه؟ هل أجد بعضنا يكاد ينادي: بل لا شعر ولا قصيدة لهذا الزمن، لأنه سيصنع لنفسه وسائله وأدواته المعرفية، ومرجعياته، وما يتلاءم مع هذه الوسائل والأدوات المعرفية والمرجعيات من لغة قد لا تكون هي اللغة، وشعر قد لا يكون هو الشعر، وقصيدة قد لا تكون هي قصيدة النثر. بل قد لا تكون هي القصيدة مطلقاً!
يبدو لي أن الكمّ الهائل من نماذج الكتابات الشعرية التي تغرق فيها المكتبة العربية الحديثة هو الموضوع النقدي الوحيد الذي يستحق أن نجتمع حوله، وأن نفكر فيه، ونتبادل الرأي في شأنه. كمّ هائل، بعضه شعر مستحق وبعضه شعر ساقط، هو هذا الكمّ بالذات الذي كان يفترض بهذا المؤتمر أن يشكل طاولات جدية تجمع أهل النظر، شعراء ونقاداً وأكاديميين، لإبداء الرأي فيه. لكن أين نحن من هذه الطاولات؟
يذهب المرء الى العدد الأكبر من الجامعات، الى كليات الأدب اللبنانية والعربية، فماذا يجد؟ يجيب بعضنا بدون تعميم: لولا القليل لكان يقول إنه لا يجد شيئاً حاسماً ومحورياً على مستوى درس الشعريات الحديثة. لا في البرامج التي تنظم عملية التخصص في الأدب، ولا على مستوى الأستاذية ولا على مستوى الأجيال الطالبية نفسها. فما هو دور هذه الجامعات إذاً على مستوى مواكبة حركة الادب او على مستوى الاستشراف النقدي؟!
يخجل هذا المرء أن يقول إن العدد الأكبر من هذه الجامعات والكليات لا علاقة له بالحركية الديناميكية للأدب العربي الحديث. إنها حتى ليست مختبرات للدراسات الأدبية. أكثرها جامعات تصف التاريخ الأدبي ولا تفككه. تراه يعبر ولا تعرف أن تلاقيه وتواكبه، او أن تستشرفه. فلماذا الجامعات إذاً؟ يكاد الواحد منا يستنتج أن ليس من جامعة واحدة يمكن أن تقول عن نفسها إنها تطمح الى العيش جنباً الى جنب مع هذا الأدب الحديث، مع تجاربه واختباراته، مع قصائده ونصوصه ورواياته، بعثراتها وإصاباتها. ليس من منبر أكاديمي واحد هو مختبر نقدي للأدب الحديث أو يطمح الى تشييد نوع من التوازي بين كتابة النص وقراءة مكوّنات هذه الكتابة، بناها، عناصرها وخصائصها. فأين الجامعات والأساتذة إذاً؟

أيها السيدات والسادة،

الشعر هو انتباه المطلق الى لغته.
والشعر هو. فحسب. والشعري هو. ويكون. وكائن. ليس إلاّ.
كان ينبغي لإدارة هذا المؤتمر أن تجعل نقد هذا الشعر، بقصائده ونصوصه، هو إشكالية هذا المؤتمر الجوهرية، وأن يكون هذا العمل النقدي بالذات، هو الخبز والخمر على الطاولة التي نجتمع حولها.
أرجو من الجميع وخصوصاً من السادة الذين تكرّموا علينا بالدعوة الى هذا المؤتمر، أن لا يجدوا في مداخلتي هذه ما يقرّع دعوتهم، أو يبخسها حقّها، او يفخخ معناها. فغايتي أن أساهم في تأليب الجهود التي يظن باذلوها أنها تخدم مسألة الشعار الذي يقوم عليه هذا المؤتمر، لكي يبذلوها في مواضع أخرى، أفيد وأنفع، وتؤدي غايتها المرجوة.
بعد خمسين عاماً من الصمت الأكاديمي والجامعي، هل من مسألة عاجلة تستحق أن يعقد من أجلها مؤتمر كهذا، أكثر من إيجاد متخصصين أكاديميين ونقاد في هذا الباب، يساهمون في قراءة الشعر ومواكبته، وتصويبه إذا اقتضى الأمر، وفي تنشئة الأجيال وفتح الأبواب للعيش داخل اللغة الشعرية لا خارجها؟
بل تريد هذه المساءلة من المؤتمر أن يكون منطلقاً لتحويل النقاش في اتجاه الأجدى: المطالبة بإدراج شعر النثر في صلب العملية الأكاديمية مطلقاً، من الصفوف التكميلية حتى الجامعة، مناهج وأساتذة وطلاباً.

حضرات المؤتمرين،

تحت سلطة التكنولوجيا الالكترونية واللغة الرقمية، أين هو العقل الآن؟ والخيال؟ والحلم؟ والباطن؟ والواقع؟ والحواس؟ أين هي اللغة الآن؟ أين هو النثر؟ وأين هو شعر النثر؟ إذا عثر أحدنا على شيء من هذا وهذه، إذا عثر على هذه اللغة، على هذا النثر، وعلى شعر النثر هذا، فلينصّبه إلهاً. وليخلعه في الآن نفسه عن العرش. عن العروش جميعها.
ثم لنخترع لنا لغةً جديدة. ونثراً جديداً. ولنبدأ من جديد.


ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة