بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

زواج الشعر والفلك والتاريخ والمسرح


الجزء الثالث من "الكتاب/ أمسى المكان الآن" لأدونيس


شوقي بزيع


بصدور الجزء الثالث من <<الكتاب/أمس المكان الآن>> يفرغ أدونيس من كتابة أحد أكثر أعماله الشعرية فرادة ومغايرة وإثارة للبس والجدل إن لم يكن أكثرها على الإطلاق. فهذا السفر الضخم الذي يربو عدد صفحات أجزائه الثلاثة على الألف وأربعمئة صفحة لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد عمل شعري جديد يُضاف الى الأعمال الشعرية السابقة بل بوصفه مشروعاً فكرياً ومعرفياً وإبداعياً مركّب الهوية يختلط فيه الشعر بالنثر والفلسفة بالتاريخ والذاتي بالجماعي، أراد أدونيس من خلاله ان يتوج مسيرة شعرية وفكرية تناهز الخمسة عقود. إن ما فعله أدونيس في <<الكتاب>> يتقاطع من وجوه عدة مع ما فعله دانتي في <<الكوميديا الإلهية>> وغوته في <<فاوست>> ونيتشه في <<هكذا تكلم زرادشت>> وجبران في <<النبي>>. فلقد اختار كل من هؤلاء القناع الذي يناسبه ليقول الكلمة التي تختلج في أعماقه وليطرح أسئلته المقلقة على الوجود والعالم، وعلى نفسه قبل كل شيء.
لا يمكن النظر الى <<كتاب>> أدونيس بهذا المعنى من زاوية انتقائية ومجتزأة. فكل نظرة مماثلة لا بد أن تبعث على الارتياب والتشكيك وسوء الفهم. لقد هال الذين حاكموا <<الكتاب>> بميزان الشعر وحده ان يروا في هوامشه هذا الكم الكبير من النظم العادي والشروح النثرية وسرد الوقائع والأحداث. والذين حاكموا العمل بميزان التاريخ رأوا فيه تغليباً للذاتي على الموضوعي وللمزاج الشخصي على الحقيقة المجردة. والذين حاكموه بميزان الفكر كانوا ينطلقون من مفاهيم موروثة ومسبقة قائمة على الفصل الكامل بين <<الغناء>> والمعرفة وبين القلب والعقل. والحقيقة ان جميع هؤلاء في واد وادونيس، كما أرى على الأقل، في واد آخر. ذلك ان صاحب <<اغاني مهيار الدمشقي>> و<<كتاب التحولات..>> لم يكن يرى الى الشعر باعتباره غناء وانشاداً خالصين بل باعتباره طاقة معرفية تحويلية ورؤية شاملة للوجود وتقويضاً باللغة والموقف للأعراف والقيم السائدة. وهو ما يتطلّب من الشاعر لا ان يكون ناظماً للمشاعر أو المعاني فحسب بل ان يكون حادساً وصاحب مشروع ومستكشفاً للمجاهيل.
إذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه فإن تسمية <<الكتاب>> نفسها تؤشر من حيث دلالاتها الايحائية المضمرة الى مناطق الاشتباك التي يقيمها أدونيس بين الشاعر والنبي. ليس ذلك بالمعنى الديني والايماني الصرف بل بالمعنى الذي يجعل من الشعر فعل استباق وملعب حدوس ومن الشاعر نفسه كائناً منوطاً بتأويل العالم وإعادة صياغته. أما العنوان الرديف <<أمس المكان الآن>> فهو يؤكد على العلاقة العضوية الراسخة بين المكان والزمان من جهة وعلى كون الماضي هو الذخيرة التي يتزوّد بها الحاضر في طريقه الى المستقبل، من جهة أخرى. إن الكتابة بمفهومها العميق هي، وفق أدونيس، تجذّر في الزمن وتحلّل منه في آن، أو هي الجذور التي حين يضجرها التراب تحمله معها وترحل في مغامرة مجهولة العواقب.
لم يكن من قبيل الصدفة اذاً ان يتخذ أدونيس من المتنبي قناعه وظهيره وحجته على الزمن وان يستهلّ ثلاثيته الشعرية الضخمة بالعبارة التالية <<مخطوطة تُنسب الى المتنبي يحققها وينشرها أدونيس>>.
ان التحقيق الذي يشير اليه أدونيس هنا لا يحمل، كما في تحقيق المصادر والأمهات، معنى الشرح والتعليق والتفسير بل معنى العلامة أو البرهان اللذين يعكسان التناظر والتصادي بين نهاية العلامة أو البرهان اللذين يعكسان التناظر والتصادي بين نهاية الألفية الأولى ونهاية الألفية الثانية. كأن كلاً من الشاعرين يتشاطران العبء نفسه ويحملان على كاهليهما جثة النهايات والمصائر وثقل الوعود والأحلام. كل منهما عاش زمن التفسخ والانحلال وتذرر الدويلات وانهيار القيم وفساد الشعر، وكل منهما منوط بإطلاق الصرخة الى نهاياتها ودفع الكارثة قليلاً الى الوراء واعادة المصالحة بين الشعر والنبوة. على ان اختيار أدونيس للمتنبي ليكون قناعاً له لا يعني التماهي أو التطابق بين الشاعرين بقدر ما يحمل معنى الحوار والمساءلة وتشابه الظروف المحيطة بالشاعرين. إن علاقة الحفيد بالجد هنا ليست علاقة تشبه أو التحاق أو محاكاة بل هي علاقة جدل ومغايرة وتباين في اللغة والعبارة والأسلوب. ومع ذلك فهما يلتقيان في متّحد مفهومي قوامه الهضم والتجاوز أو الهدم والتأسيس. وهما يلتقيان في إخراج الشعر من رخاوته الإنشائية الغنائية وتحويله الى موقف شمولي من الحياة واللغة والأشياء والى انقلاب مستمر على الذات والعالم.
الجزء الثالث من <<الكتاب>> هو من حيث البنية والشكل امتداد للجزءين السابقين، مع بعض التعديلات الطفيفة في التبويب والتفريع. فالكتاب يتألف من سبعة فصول يضم كل منها فاصلة استباق وعدداً من المقاطع الشعرية موازياً لحروف الهجاء، اضافة الى هوامش سبعة تحمل عناوين: معراج وديجور ورصد وفلك وغيوم وغور وغيب. كما يتألف كل هامش من الهوامش من عشرة مقاطع شعرية. ولا تُخفى في هذا السياق الدلالة التي يحملها الرقم <<7>> سواء في الفكر اليوناني الفيتاغوري أم في الفكر الديني المتصل بتفسير الكون وعدد السماوات والأراضين ونظرية الخلق. أما صفحات الكتاب نفسها فتنقسم الى متن متعلق بالشعر وهامش متعلق بالتاريخ. يتخذ المتن في وسط الصفحات شكل مستطيل وينقسم الى شطرين، أعلاهما منسوب الى المتنبي وأسفلهما شبيه بالتذييل الذي يعلق بواسطته أدونيس على ما ينسبه أدونيس الى المتنبي. الهامش بدوره يتوزع بين يمين الصفحة الذي يؤرخ للأحداث والوقائع تحت باب <<الذاكرة>> وبين يسارها الذي يعلق على الأحداث والأسماء بالشرح والتفسير. واذا كان جزءا الكتاب الأولان قد تناولا ابرز محطات التاريخ العربي منذ الجاهلية وحتى العقد الثامن من القرن الثالث الهجري فإن الجزء الثالث والأخير يتابع ما تبقى من الأحداث وصولاً الى منتصف القرن الرابع الهجري أي الى اللحظة نفسها التي شهدت نهاية المتنبي وأفوله الجسدي. وهي أحداث تشير بالسنوات والقرائن الى صعود دولة القرامطة وانحلالها كما الى انحلال الخلافة العباسية وقيام الدويلات ومصارع الخلفاء وتحولهم الى ألعوبة في أيدي القادة والغلمان والجواري والى النهايات المأساوية لعلي بن محمد والحلاج وغيرهما من <<المارقين>> في السياسة والأدب والفكر.
<<الكتاب>> بهذا المعنى هو المعادل الشعري البالغ الدلالة لما أسس له أدونيس فكرياً في كتابه الآخر <<الثابت والمتحوّل>> وضمّنه رؤيته الخاصة الى التراث العربي والإسلامي الموزع بين الرفض والامتثال وبين النار والرماد. وكل رؤية للعمل خارج هذا المفهوم الجدلي الخلاق هي رؤية ناقصة وأحادية لا تريد أن ترى من الكأس سوى نصفه الفارغ ولا تقبل الا ان تسقط عليه نظرتها المسبقة والمتحاملة. وإذا كان هامش الكتاب مريراً الى هذا الحد ومضرّجاً بالمذابح والمجازر المتواصلة فلأن أحداث التاريخ تؤكد ذلك ولأن بارانويا السلطة لا تستسقي سوى المزيد من الدم المسفوك، ولأن <<الملك عقيم>> كما يقول هارون الرشيد لولده الأمين، الذي قضى بعد ذلك بسيف أخيه. غير أن الذين يأخذون على أدونيس انه رأى في الذبح والقتل والاغتيال الصورة الوحيدة للتاريخ العربي ينسون أو يتناسون الصورة الزاهية الأخرى التي قدمها الشاعر لهذا التاريخ والتي تمثلت في جزءي الكتاب السابقين بعشرات الأسماء من الشعراء والكتاب والمفكرين. كما أن صاحب <<الكتاب>> لم يجعل من التعطش للدم خاصية عربية أو احتكاراً عربياً سلطوياً لحاسة القتل وشهوة الانتقام بل هو خاصية السلطة حيث وجدت سواء في طبائع الاستبداد الشرقي أو في الميكيافيللية الغربية التي أماطت اللثام عن وجه أوروبا الشنيع.
ليست ثلاثية أدونيس الشعرية بهذا المعنى سوى إعادة تظهير لدور المثقف المبدع في نقد السلطة الحاكمة، لا بما هي سلطة سياسية أو عسكرية فحسب بل بما هي تأييد للأعراف والقيم السائدة ولثقافة التكرار والاستنقاع والرضوخ. فالمثقف الحقيقي، وفق أدونيس، هو الضمير والبوصلة والدليل، وهو من يعاند ويخلخل ويدقّ ناقوس الخطر. لكن ذلك الدور المنوط به لا يمكن ان ينجز بالوسائل القديمة والمستنفدة أو بلغة المديح والفخر والهجاء بل بتثوير المفاهيم وتغيير الأدوات ونقد الرائج والمتداول. واذا كان أدونيس يلتقي في بعض توجهاته مع أطروحة المثقف الملتزم التي أخذ بها جان بول سارتر ومعتنقو الواقعية الاشتراكية إلا انه يفترق عن هذه الأطروحة في جعله الوسيلة جزءاً من الغاية والطريق عين الهدف. اذ لا يمكن تحقيق التقدم بوسائل رجعية ونشدان الثورة بلغة الهتاف الأجوف. واذا كانت صفحات <<الكتاب>> تسير على خطين اثنين: خط التاريخ وخط الإبداع فلأن كاتبها يؤمن أشد الإيمان بالتوأمة العميقة بين الواقع والابداع وبين تغيير اللغة وتغيير العالم. ولعل هذه التوأمة بالذات هي التي أعطت لشعر ادونيس وفكره جاذبيتهما الفريدة وجعلت من تجربته محط أنظار الأجيال الجديدة وقوى الاعتراض الفتية. وهي التي حوّلت كتبه واشعاره، وبخاصة في دول القمع والاستبداد، الى مواد ممنوعة يتم تهريبها بشكل سري من يد الى يد ومن قارئ الى قارئ.
ما يلفت في الجزء الثالث من <<الكتاب>> أكثر من سواه هو ارتفاع منسوب الشعرية نفسها على حساب النثر والهوامش التاريخية. كأن نزوح المتنبي عن حلب ورحيله المأساوي الى مصر يتركان الشعر عارياً في المواجهة وبعيداً عن نبرة الانتصار الواثقة التي لازمته في بلاط سيف الدولة. لقد فقد الشاعر هنا قلعته وصهوته وظهيره الصلب وبات على الشعرية نفسها أن تملأ المكان الشاغر وترتق فسوخ الروح وتصدعاتها. لا يملك أدونيس في هذه الحالة سوى ان يهتف بلسان المتنبي: <<ما لحزني يطارد أسراره/ ما له ساهر يتقلب في دائه؟/ أعطه أيها الجمر مفتاحه/ وأعده لبيدائه/ أصحيح/ انني لست إلا الطريق الذي سرته؟>>. وفي هذا الهتاف الوجودي ما يتصادى مع نظرة الشاعر اليوناني كافافي الى <<ايتاكا>> التي تتكشف عند الوصول اليها كومة من الخرائب فيما يتألق الطريق اليها كأجمل ما يكون التألق. على أن طريق أدونيس/ المتنبي تمتاز عن طريق كافافي في انقلابها على نفسها وفي التباسها بسواها: <<لا طريق/ اذا لم يكن نفيها/ طريقاً الى غيرها>>. ان ما يجمع المتنبي بأدونيس وبكل شاعر حقيقي هو القلق والتوجّس وفقدان اليقين. ليس قلق الاقامة فحسب بل قلق الرحيل أيضاً: <<كرر الآن قولي يا أيها الجواد/ وكرره يا أيها الحسام/ آه ما أقتل الرحيل/ وأقتل منه المقام>>. كلاهما الاقامة والسفر مفتاحان خاطئان لباب الحياة العطوب. الحياة التي تلمع في مكان آخر، بحسب كونديرا، والتي لا سبيل الى تجنّب الخوف منها سوى باقتحامها والوقوع فيها وقوع الذكر في الأنثى، ولو بلا أمل في الوصول.
يعيد أدونيس قراءة المتنبي كما يليق بالشاعر ان يقرأ نفسه ويقرأ الآخر مفجّراً في سفره الضخم الاشكالية تلو الاشكالية والسؤال تلو السؤال: اشكالية العلاقة بين الشاعر والسلطة وبين الشاعر واللغة وبين الشاعر والحب وبين الشاعر والموت. هكذا تتحوّل الكتابة الى متواليات متواصلة من الأفخاح والهواجس والشكوك. وفي رد واضح المعالم والرؤى على تشكيك البعض بأنفة المتنبي وكبريائه وعلى اتهامهم له بالسعي الى سلطة زمنية عابرة يفرط في سبيلها بكرامة الشعر يقول أدونيس/المتنبي: 
<<لم لم يفهموني/ لا أطالب بالملك/ ملكي أن أرد الى الأرض فطرة ابداعها / الأرض بيت/ ليس فيه عبيد ولا سادة/ وملكي/ أن أسائل نفسي: /من أنا؟ ولماذا؟/ سمّي المتنبي شبح فيّ/ شمس/ لا تصدق حتى قناديلها/ لم لم يفهموني>>. 
الشعر هنا لا يسير بمحاذاة التاريخ بل يعمل على تصويبه وإعادة صياغته بما يجعل الشاعر خالقاً للتاريخ ومخلّصاً إياه من عهدة مؤرخي السلطة وكتبة البلاطات. والشاعر منوط بالتالي بإعادة الاعتبار الى أولئك الذين تتعرض حيواتهم للتزوير ودعواتهم للاغتصاب والتحريف. على ان أدونيس في عمله الأخير لا يكتفي بتصحيح التاريخ من الجهة المتعلقة بالمتنبي فحسب بل هو لا يجد حرجاً من تصحيح الصورة التي جعلت من كافور مجرد حاكم جاهل تتحكم فيه عقدة العبودية واللون ليجعل منه حاكماً عميق السريرة وشغوفاً بالحرية والابداع. فأدونيس الذي يرفض النظر الى التاريخ باعتباره معطى نهائياً وناجزاً يتولى قراءة كافور من خارج الرؤية الثنائية التبسيطية التي تجعله ممثلاً للشر المطلق مقابل الخير المطلق. لذلك فهو في <<كتاب السواد>> الذي يشكل مع <<رماد المتنبي>> خاتمة الثلاثية يتحدث بلسان كافور عن طفولة هذا الأخير البائسة وعن صعوده الى الملك وصولاً الى اللبس الذي أحاط بموقفه من أبي الطيب: 
<<لا أريد امتداح السواد ولكن/ ربما أخطأ المتنبي/ في قراءة ...>>.
لوني وقراءة ما بيننا/ لم أشأ أن ألبي ما شاء/ لم أعطه الولاية كي لا يكون سجينا لها/ شئت أن يستمر وفيا/ لمرارته/ أن يطل على الأرض من شرفة الأنبياء/ كوكبا ملكه الفضاء>>.
لا بد أخيرا من الإشارة الى العصب الذكوري الذي تمتاز فيه شاعرية أدونيس في <<الكتاب>> كما في سائر أعماله. فذلك العصب ليس ناجما، كما رأى البعض، عن فحولة استقوائية قوامها السيطرة والاستحواذ بقدر ما هو مساحة للتوتر وقلق في اللغة وطريقة في تزويج المفردات. إنها ليست الذكورة التي تقابل الأنوثة وتعمل على قهرها وتغييبها بل التي تقابل الميوعة والرخاوة والإنشاء. ولعل هذه الميزة بالذات هي ما جعل أدونيس يرى في المتنبي نظيره في اللغة والحياة والموقف. فالشعر عند كل منهما نظير الكثافة والامتلاء الذي يتميز بهما الجسد الذكوري. إنه دفع باللغة الى نهاياتها وجذب لخيط البلاغة الى أقصاه ووقوف على التخوم الملغزة التي تلمح على شفا الموت.
وليس غريبا في حالة كهذه أن يعلن أدونيس بلسان المتنبي مرة أخرى: <<هل أحد يعرف أني أعشق موتي/ لا شغفا بالموت ولكن/ كي أبقى سراً>>.

ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة