بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

البيان التأسيسي الأول

نازك الملائكة

محمد علي شمس الدين


قبل مجلة (شعر) اللبنانية التي صدر العدد الأول منها في شتاء العام 1957، بعشر سنوات على الأقل، كانت مغامرة الحداثة الشعرية قد بدأت على ايدي كل من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري (من العراق)، وكان صلاح الدين عبدالصبور (كما كان يوقع قصائده في مجلة الآداب) وأحمد عبدالمعطي حجازي (من مصر) يتلمسان طريقهما للحداثة الشعرية. اما بلاد الشام، فكانت تتهيأ لتلعب دورها المنتظر لها في تغيير الحساسية الشعرية العربية، وتقديم خصوصيتها في هذه المغامرة، المستمدة من هذا التناص الفذ بين تيارات الحداثة الغربية (بالفرنسية والانجليزية) وحاجة الشعرية العربية للتجدد.
وفي حين كان السؤال يطرح حول من هو الشاعر الذي كتب النص الشعري الحداثي الأول، أهو نازك الملائكة في قصيدة "الكوليرا"، ام عبدالوهاب البياتي في "أباريق مهشمة" ام بدر شاكر السياب،، كانت نازك الملائكة تعمق معنى الريادة الشعرية الجديدة، متجاوزة نصاً واحداً او اثنين او ثلاثة، في اتجاه وضع نظرية نقدية مبكرة لها، في مقدتها المهمة لديوان "شظايا ورماد" الصادر بطبعته الاولى في العام 1949، حيث عرضت فيها اسس الشعر الحر وأوزانه ولغته ومفرداته وبنيته وهي تعتبر أول نظرية مبكرة للحداثة الشعرية في تاريخ الشعر العربي الحديث والمعاصر، عزّزتها وفصلتها نازك الملائكة فيما بعد، في كتابها النقدي والنظري الرائد "قضايا الشعر المعاصر" الصادر لها العام 1962. تستعمل الشاعرة في مقدمة "شظايا ورماد" لغة نقدية مقتحمة، ويتوجس في ذلك أن عاصفة حقيقية بدأت تهب على بحيرة الشعر العربي الراكدة أو المتململة في غلالات شاحبة للرومانسية، او استعادات معاصرة لكلاسيكية قديمة. ولا ريب في أن الشاعرة أحست يومذاك بأنها تبحر عكس التيار، فتسلحت بقول برناردشو: "في الحياة كما في الشعر، اللا قاعدة هي القاعدة الذهبية".
فما الذي اجترحته نازك الملائكة في بيانها يومئذ؟ وأي حجر رمته في بحيرة الشعر العربي في خمسينات القرن العشرين؟ وإلى أي مدى انداحت دوائرها في البحيرة؟ وهل تابعت مغامرتها نظرياً ونصياً أم أنها ما لبثت ان تعبت، ولجمها التحفظ وآل بها إلى النكوص في آخر دواوينها "شجرة القمر" الصادر لها في العام 1968؟ فعاشت تجربتها الحداثية بقلق وريبة على ما يقارب عشرين عاماً، وانتهت بها الى ان تقول في ملاحظات كتبتها في تقديم "شجرة القمر" بعنوان "حول الشعر الحرّ": 
"وإني لعلي يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد وسيرجع الشعراء الى الاوزان الشطرية بعد ان خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها".
وتستدرك فتضيف: 
"وليس معنى هذا ان الشعر الحر سيموت وانما سيبقى قائماً يستعمله الشاعر لبعض أغراضه ومقاصده من دون أن يتعصب له ويترك الأوزان العربية الجميلة". 
وحجتها في بيان التراجع هذا،، هي في ما يملكه الشعر الحر من عيوب أبرزها "الرتابة والتدفق والمدى المحدود"، كما أن هاجسها أن تزيد الشعر موسيقى (وهي تعني بذلك الوزن) وتحميه من "ضعف الرنين وانفلات الشكل".
لقد أفلتت من يد نازك خصوبة التجربة الحداثية للشعر العربي في اتجاهاتها المختلفة، ولكنها أسست نظرياً ونقدياً لهذه الخصوبة. وإننا نعجب حقاً، وربما أصبنا بإحساس من الانفصام بين النظرية المغامرة والقصيدة المحافظة، أمام مقدمة "شظايا ورماد".. فنازك تقول: 
"مازلنا اسرى تسيّرنا القواعد التي وضعها اسلافنا في الجاهلية وصدر الاسلام. مازلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة في سلاسل الأوزان القديمة وقرقعة الألفاظ الميتة.. وكأن الشعر لا يستطيع ان يكون شعراً إن خرجت تفعيلاته على طريقة الخليل" ونراها تكسع طريقة الخليل بن احمد الفراهيدي بقولها: ".. 
ألم تصدأ لطول ما لامستها الأقلام والشفاه منذ سنين وسنين؟"، ولكنها لا توفر اللغة القديمة أيضاً من لسعها فتقول: 
".. إن اللغة ان لم تركض مع الحياة ماتت.. والعربية ابتليت بأجيال من الذين يجيدون التحنيط وصنع التماثيل، دون أن يدركوا أن شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا يصنعه الف نحوي ولغوي مجتمعين.. فالألفاظ تصدأ وتحول وتحتاج الى استبدال".
أما القافية الواحدة فهي برأيها وراء الخسائر الفادحة في الشعر العربي طيلة العصور الماضية، وهي "تضفي على القصيدة لوناً رتيباً يمل السامع فضلاً عن أنه يثير في نفسه شعوراً بتكلف الشاعر وتصيّده للقافية". فالشاعر يضطر لمصانعة الشفافية ويقع اسيراً لطغيان "هذه الإلهة المغرورة".
وهي بين التحرير الجزئي للقافية باستعمال نظام المقطوعة كما في قصيدة "الكوليرا" وتحريرها التام كما في قصيدة "القطار"، تعترف بأن هذه الخطوة هي التي تسبق الشعر المرسل وأنها تأثرت في ذلك بقصيدة الشاعر الأميركي ادغار ألن ير.
ولا يفلت من يدها مسألة أساسية في نبض القصيدة الحديثة، كما عرفت في الثقافة الغربية (الفرنسية والانجليزية بخاصة) لجهة اتجاهها السريع الى داخل النفس بعد أن بقيت تحوم حولها من بعيد، فالشعر حفر في أعماق النفس البشرية انسجاماً مع أحداث النظريات الأوروبية في الفلسفة والفن وعلم النفس، كما أن الغموض الذي هو أساس في النفس البشرية، أساس في الشعر أيضاً.. لذا لم لا للسوريالية؟ ولم لا للقصيدة المتاهة؟ وفي النتيجة، وكعرافة لشعر الغد تقول: "لن يبقى من الأساليب القديمة شيء، فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعا".
لا تخلو أفكار نازك الملائكة المبكرة في نقد جمود الوزن والقافية، وقاموسية الكلمة في الشعر العربي السابق، من مغامرة، استكملت عناصرها بنقدها لجوهر الشعر القديم، فالتجديد يحتاج الى تغيير في الموسيقى والأوزان وتغيير في القوافي، وهو ما يطال الشكل الشعري، كما يحتاج الى الحفر في داخل النفس البشرية والانبثاق من داخلها ومن سويدائها ومكنوناتها في اللاوعي،، وهي سويداء غامضة وسحيقة وعليها تستند السريالية بشكل أساسي، ما يجعل نظرية نازك في الشعر الحر نظرية مؤسسة لا لتحطيم الأوزان الخليلية السابقة فحسب، والاستناد الى التفعيلة المفردة في الأوزان الشعرية الجديدة، بل تكاد تنظّر ايضاً لقصيدة النثر من خلال قولها: 
".. فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعا".. 
ذلك ما حصل بالفعل فيما بعد، على أيدي بعض من جماعة مجلة (شعر)، على الرغم من انهم لا يذكرون لنازك الملائكة فضل الريادة والسبق في هذه الاشارات المبكرة للمغامرة الشعرية العربية.
والحال أن نازك الملائكة، بسبب ضغط الجواذب المحافظة والقديمة على ذاتها، وبسبب من تركيبها النفسي والأخلاقي المحافظ، كانت أول من تراجع عن دعوتها الثورية تلك. ولعلني أشبهها هنا بشخص هيأ حصاناً قوياً وجامحاً ليطلقه في السهل، ولكنه آثر ألا يمتطيه، فتركه في اندفاعه ليمتطيه سواه.. اما هو فجلس قانعاً خائفاً متوجساً في ركنه الآمن وآثر السلامة.
وإننا لا نجد أثراً أو قصيدة أو بحثاً لنازك الملائكة أو عنها في مجلة (شعر).. كما أن احتفال المجلة بعبدالوهاب البياتي، كان ضئيلا، بل لعله كان لها موقف سلبي منه، فإن أنسي الحاج الذي لم يبدأ شاعراً في أعداد السنة الأولى من المجلة المذكورة، مارس دور الناقد فنقد مجموعة "الأطفال والزيتون" للبياتي، نقداً سلبياً، ذكر فيه انه يعتقد أن البياتي مصاب بعقد نفسية كثيرة، ابرزها عقدة النقص. ولا نجد للبياتي اثراً في مجلة (شعر) على امتداد اعدادها، ماخلا مقابلة اجراها معه عصام محفوظ ونشرت في عدد شتاء 1968(في السنة العاشرة للمجلة).
نلاحظ ايضاً غياب خليل حاوي عن مجلة (شعر). فقد كان ان نشر قصيدة واحدة فيها في العدد الثاني منها (ربيع 1957) ارسلها اليها من كمبردج،، ثم لم يعد للنشر البتة، واختفت اخباره واشعاره منها. ولخليل حاوي موقف ادانة قاس من هذه المجلة عبر عنه في اكثر من موقع.. ولكنه يبرئ بدر شاكر السياب من ان يكون "ضالعاً" في ما يرى حاوي أن الخال وأدونيس ضلعا به في المجلة، على الرغم من أن السياب نشر قصائده المهمة في (شعر) وأصدر مجموعته المسماة "انشودة المطر" عن دار النشر التابعة للمجلة.
والحال أن نازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي (وبدر شاكر السياب في بداياته) وصلاح عبدالصبور واحمد عبدالمعطي حجازي، كانوا يتخذون من مجلة الآداب اللبنانية، مكاناً مفضلاً لنشر قصائدهم، وقد فعل خليل حاوي الأمر نفسه بعد قطع علاقته بمجلة (شعر)، فنشر في "الآداب" قصائده، وفي دار الآداب دواوينه.. وهو ما فعلته نازك الملائكة ايضاً وصلاح عبدالصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي وفدوى طوقان وشعراء آخرون شكلوا مع البياتي ومن خلال مجلة (الآداب) ما يشبه رداً ضمنياً وعملياً على اتجاهات مجلة (شعر) والموجهين لسياستها الشعرية.

* (القسم الثاني)


الرياض الخميس 23 رمضان 1423العدد 12578 السنة 38


ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة