بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

للشعر أن يهدم ويسقط قاع الـكذب

أدونيس

فصل من كتاب أدونيس "هوية ناقصة" الصادر بالفرنسية


ترجمة حنان عاد - "النهار" الجمعة 16 نيسان 2004


"هوية غير ناقصة"(*) كتاب بالفرنسية للشاعر أدونيس، صدر حديثاً في باريس بالتعاون مع شانتال شواف طارحة الاسئلة ومدوّنة إجابات الشاعر. وتتوزّع الكتاب موضوعات عديدة هي في منزلة العناوين العريضة لمعالجات ورؤى يقدمها أدونيس من منظاره شاعراً ومفكراً، في نكهة تأملية فلسفية. ومن تلك الموضوعات الملتصقة باسئلة الوجود ومعضلاته: الله، السياسة، السلام، الثورة، الادب، الشعر، الجذور، الحب، الجنس، الابداع... وهنا ترجمة الفصل الخاص بالشعر.
أملك إنتاجاً أدبياً ينزع الى تخطي التفاصيل من اجل بلوغ كلٍ، وإظهار المنظور وغير المنظور في آن واحد. إن أرَ تفصيلاً فالمطلوب رؤية هذا التفصيل ضمن الكل، وفي اتصاله بالاجزاء الاخرى المكوّنة للكل. بالنسبة الى الشاعر، ينبغي ألا تكون علاقة مع القارئ، بل مع الاشياء. فضلاً عن ذلك، إن أمراً ما مرتبط دوماً بآخر، وغير منفصل. ينبغي رؤية الشجرة من اجل رؤية افضل لغصن في شجرة. إن عزل الغصن، يدمّر، يعرّض الرؤية نفسها لخطر التدمير. المهم ليس ما أرى فحسب، إنه كذلك ما لا أرى. ليس للشجرة جانب واحد، إنها مفتوحة على سائر جهاتها وعلى الجهات جميعاً، عدا أنها ليست أفقية فقط، بل عمودية ايضاً. أحب ان اقول عن انتاجٍ، سواء كان رواية مهمة او قصيدة مرموقة، إنه شجرة! إنه مماثل للجسم البشري. الانتاج المفتقر الى هذين العمودية والانفتاح على الأفق، والذي لا قشرة له، هو انتاج فقير للغاية.
ثمة كلمة بالعربية تعني في الوقت عينه الموضوع والكتابة في فضاء واحد. إنها كلمة "رقيم". لي، مدلول "رقيم" هو صفحة، لنقل فسحة حيث يمكن ان نكتب، نرسم ونلصق، اذن أن نجمع، نوحّد. أميل الى المضيّ في اتجاه الانتاج التام. إن قصيدة يمكن أن تكون ايضاً موسيقى، حكاية. أحاول خلق نصوص كتابية، انما كذلك رسوم، ملصقات، أبتكر اشكالاً بلاستيكية. إني مقتنع بأنه لو كانت ثمة روح، فتلك الروح هي الجسد نفسه. الانتاج ثمرة وجسد بشري، جسد تام، كائن تام، جوهر. في عمل ما، يتصالح الانسان مع الطبيعة، مع نفسه، مع عدوّه. إنه نقيض العنف الذي ليس سوى عجز.

في مفهومي الشعري، ينبغي للمرأة أن تتمتع بقسط من الرجولة، من الذكوريّ، في كيانها، في حياتها، والعكس صحيح. إن رجلاً بلا أنوثة، لا يثير الاهتمام، إنها علامة نقص، من حيث علم الكائن. ألم يكن الانسان في البدء ذكراً - أنثى؟ لاحقاً تم الانفصال. منذ لحظة الانفصال الذاتي، ظل يبحث ابداً عن نصفه الضائع، الشارد عنه. ذاك هو الحب بحسب أفلاطون. اعتقد أن أفلاطون اول من روى هذه القصة. ينبغي لرجل حقيقي، ليكون حقيقياً، العثور على نصفه الباحث عنه، التائه. هذا معنى الحب. الحب، إنه الكمال النهائي.

إن الفرس التي امتطاها النبي للذهاب من مكّة الى اورشليم، خنثى، اسمها البُرَق، إنها وجه أنثوي لجسد ذكر. الجسد جسد فرس، والوجه وجه امرأة. يمكن أن يذكّرنا ذلك باسطورة جنيّة البحر التي نصفها الاعلى امرأة ولها ذيل سمكة.
إن اصل كلمة raison بالعربية: عقل. هذا يعني "كبَّل، سَجَن": اذن، المنطق، اشتقاقياً، سجنٌ. إنه قيد، حدّ، مختلف عن الاصل في اوروبا. لكن مع الوقت، اتخذت كلمة raison بالعربية المعنى نفسه المتداول في اوروبا، معنى التفكّر. غير أن كلمة عقل، عندنا، في تقليدنا، تقيّدنا. إنه عقبة في وجه الخيال، امام الاستيهامات، امام كل ما هو فطري. في مساري الفكري كله، والشعري، أحاول تحويل العقل غزالاً شارداً، وأن أجعل خمر القلب يسيل في العقل، ليكون ثملاً بقدر ما يثمل القلب، أحقق اتحاد الجسد بالروح. أوحّد العقل، ما يسمّى عقلاً، أضمه الى ما يسمّى قلباً. لي، ينبغي ان يكون العقل قلباً ثانياً.
لا نفلح ابداً في كتابة جسد الحبيبة، لحسن الحظ! فلو عرفت شيئاً، شعرت بأنك تمتلكه. والامتلاك مضاد للحب. ثم إنه لا يسعنا ان نعرف شيئاً على نحو تام ونهائي، بالاحرى شيئاً استثنائياً كالجسم البشري. الجسد هو للاكتشاف باستمرار. إنه حركة، مثل الحب. لا أُفلح في وضع الجسد في الكتابة. التحدث بالعربية يستلزم كثيراً من الكلمات، ولاسيما للتعبير عن شيء، بل أكثر، أنت لا تعبّر عن الشيء كما هو، لأنك تعبّر عن صورة هذا الشيء، اذن لا يسع لغة أن تعبّر عن الواقع، مهما تكن شاعريتها عالية، لا يمكن لغة الاحاطة بالجسم البشري. الجسم البشري، إنه لانهائي، ولا تستطيع اللغة الاحاطة الا بالنهائي. في هذا المعنى، اقول إن الفعل الجنسي أوحد. إنه العصيّ على التعبير. نعيشه لكننا لا نعبّر عنه. يمكنك التحدث عن المُعاش، في الجسد، في المرئي، في اللاإرادي، لكن الجسد هو بحر، إنه دوماً في حركة، يسبقنا ويلحق بنا. كيف التوصل الى الاحاطة بهذه الحركة الخارقة، في حين أن لا موجة تشبه اخرى. في هذا المعنى اقول إن الجسد عصيّ على التعبير. كل موجة في الجسد فريدة. واذا تخيّلنا، اذا تخيّل أحد او ادّعى التعبير عن الجسد، حينئذ، يمسي الجسد مثل جثة. حينئذ، نقتل. حينئذ، لا يعود الجسد جسداً، لا يبقى هو نفسه. وحده الدين يزعم قول الاشياء في طريقة تامة ونهائية، وهنا تُظهر حدودها.
المرأة تبحث عن الرجل، الرجل يعيش حياته باحثاً عن المرأة، لكن لا لقاء البتة يمكننا وصفه بأنه لقاء نموذجي بين جسدين، بين شخصين. نحن دوماً في بحث من الجهتين. نحن في بحث دوماً عن شريكنا، عن حبيبنا (حبيبتنا)، اذن دوماً عن هويتنا. لا نبلغ قطّ ما نصبو اليه، لا نصل ابداً الى معرفة ما نتصوّر، ولحسن الحظ. الفشل جزء متمّم لنجاحنا. الفشل قفا النجاح.
لمَ هذا الرياء لدى كليهما، لدى الرجل، كما لدى المرأة، أي أن لا أحد منهما يعترف فعلاً بدوره في الفشل ولا بدوره في النجاح؟ ثمة أمر مموّه لدى كليهما، أمر لا يسير جيداً. لا أعرف كيف أشرح لمَ المرأة والرجل يبلغان هذه المرحلة حيث يمسيان كاذبين من الجهتين، لمَ لا يستطيعان اجتياز كل العقبات، كل الشوائب، قول ما يشعران به حقاً. إنه سؤال برسم الاثنين، هل مقدّر للجهتين العيش في الكذب؟ إنه سؤالي الاخير: ألا يمكن الانسان ان يكون صادقاً؟ ولماذا؟
لعل الكلمة "أكذوبة"، أتراها ليست حقيقية؟ قد يكون الشعر نفسه خادعاً! ربما اخترعت الاديان عالم الكذبة المتعذّر تجاوزه، اذن نحن مرغمون على الكذب، مرغمون على الكذب بقوة الألوهة. الكذب كالهواء، كالشمس، لذا لو كتبنا شعراً، ينبغي نزع القناع عنه، ينبغي كشف الكذب. والشعر الثوري ليس سوى شكل محدود من اشكال الشعر الذي عليه المضيّ أبعد بكثير في الهدم، ينبغي تجاوز الشعر الثوري لأن هذا الشعر المسمّى ثورياً مضلّل بامتياز، لقد اخترع أقنعة اخرى، خلال كشف الاقنعة، لعلها اكثر مكراً، اكثر خطورة. وظيفة الشاعر، أن يهدم، أن يكشف، أن يكون دوماً في جهة الاضطراب والزلزال الثقافيين، نمضي أكثر بعداً في هذا الكلام - في هذا الكلام من الشفافية، من التجريد، من التعرية - من كلام الشعر المصطنع، لكن في اطار مجتمعنا، نحن محكومون بالكذب.
هل يمكن الكلمة ان تقول كل شيء؟ هل هي قادرة على ذلك؟ ما يمنحها أهميتها الوحيدة للكتابة، هو التدمير، الهدم، نزع القناع عما هو خطأ. الكتابة لتدمير كل كذب، لتجاوزه. من دون ذلك، تنتفي قيمتا الكلام والكتابة. اذا لم تناضل الكتابة ضد الرياء، فإنها تخلق أقنعة اخرى. إذن يمكن الكلام أن يصير القناع الكبير الذي يختبئ وراءه مجتمع برمته. ثمة عصور تكون فيها الكتابة مثل قناع ضخم. مثلاً، الكتابة العربية. كانوا يكتبون كي يقنّعوا. ينبغي ربما أن تُدرس الكتابة يوماً في المجتمعات، من حيث هي قناع. لو فكرت في كتابتي، أقول في نفسي إنها اكثر من متهمة. إنها تشي، تضيء على الاقنعة. ينبغي أن نشهد دوماً، ينبغي دوماً أن نتكلم... لكن ذلك لا يغيّر شيئاً! حتى لو شعرتُ بأن الكتابة كما أؤديها، هي فعل. ما عساه عمل شاعر في مجتمع يخون الشعر؟ او الانتظار حتى تبادر الطاقة الروحية التي ينتجها الى تشويش المستقبل؟

(*) صدر في "منشورات دو روشيه"، موناكو، .2004


ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة