بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

إشكاليات قصيدة النثر في المنظومة الثقافية الواحدية

د. فرزند عمر - أفق - أكتوبر 2003


ربما العنوان الذي اخترناه لطرح بعض الشروح المتعلقة بهذا المفهوم الشائك وأعني به قصيدة النثر يبدو في الوهلة الأولى استفزازياً نوعاً ما خاصة بالنسبة لمتلقي ينتمي للمنظومة المطروحة لكن الضرورة الجدلية التي تحتم وجود الأضداد كقانون طبيعي لاستمرارية الحركة والتطور يستوجب علينا تسليط الأضواء على الخطأ الموجود كما هو والذي نعتبره من خلال المنظور الشخصي أنه لا يتعدى كونه إلا تعظيماً للصواب.
ومن منطلق أن الجدال حول هذا المفهوم الذي نحن بصدده تقلص لدرجة التلاشي في الطرف الآخر وأعني به المنظومة الثقافية الغربية أو المنظومة التعددية واعتمادنا الأساس في هذا التصنيف إن صح التعبير بين المنظومتين لا يعتمد في أساسه على الأقل فيما نطرحه الآن على القانون العرقي أو الاشتراك اللغوي أو التاريخي إنما الاعتماد الأساسي على الخيارات المطروحة أمام النتاج الثقافي بوحدتيه (مبدع / متلقي) والتي تتقلص لدرجة الواحدية في أجواء تكاد ذهنية التحريم والتقديس المبدأ الأساس للتعامل مع الأشياء أو بمعناً أخر النفي والشطب الكامل أو القبول التقديسي المبالغ فيه بينما نجد في الطرف الآخر الخيارات الممنوحة تكاد تتجاوز اللانهاية. وكلا المنظومتين تتمتعان بنوع من التوازن الداخلي الحركي و ذلك لعدم غياب الأضداد في الطرفين.
لكن الخلاف هو في تعددية الثنائيات الضدية وبالتالي تعددية المسار الحركي التطوري باعتبار أن الحركة تعتمد في جوهرها على وجود الأضداد.
الأولى وأعني بها النظام الواحدي تكاد الحركة تكون غير ملحوظة إلا من خلال التمحيص والتقصي لندرة وجودها وذلك لندرة الخيارات المطروحة كما أسلفنا وبالتالي ندرة الثنائيات بينما في الطرف الآخر الحركة ملاحظة حتى من قبل أدنى فئات المجتمع لتعدديتها وبالتالي انتشارها وهذا بدوره يندرج على التطور كمفهوم مبني أساساً على الحركة.
و الحركة بالتالي تأخذ طابع العنف و الشدة في النظام الواحدي بسبب تفاوت الطاقة بين الثنائيات الضدية و طرح الحركة عبر مسار واحد.
هذا العنف الذي يفي بغرض الهدم أكثر مما يفي لأغراض بنائية و بالتالي التطور سيكون أقل ملاحظة حتى من الحركة نفسها أي بالكاد أن تلاحظ حتى مع وجود التقصي والتمحيص.
في قصيدة النثر لا بد من الاعتراف أنها مصاغة كمفهوم في إطار المنظومة التعددية بل أكثر من ذلك إنها أصدق التعابير التي وصلتنا عن هذه المنظومة.
لكن لماذا هذه المقاومة الشديدة التي لاقته لدينا نحن أصحاب المنظومات الواحدية ؟ مع أننا وبكل الأشكال لا نتعدى كوننا مصنفين في أحسن الأحوال بمجتمعات استهلاكية و لدينا تقبل غير ملحوظ لكل ما ينتج على السبيل التقني والفني وبدون أي شروط.
و هذه أيضاً تعتبر أحد الخواص المميزة للمجتمعات الواحدية والتي بها تحاول التعويض عن النقص الناجم نتيجة لضعف المسار التطوري.
تقبلنا مفهوم القصة والرواية والمسرح بكل رحابة صدر لكن قصيدة النثر يبدو أنها تقف حتى الآن دون أن نستطيع بلعها. والسبب في رأينا يرجع أن هذا المفهوم ليس بالجدة كما تخيل البعض فلو أنه كان بالجدة الملاحظة كما لدى المسرح لم تكن هناك أي إشكالية تذكر بالعكس كنا سنصفق له. فالمشكلة ليست في التلقي إنما المشكلة الحقيقية هي في التطوير والذي يتم في مجتمعاتنا ضمن ذهنية التحريم السابقة الذكر.
و التطوير يتم على محورين هما الأصالة والتجديد ، ففي حالة قصيدة النثر وضمن الذهنية التحريمية يتعارض المحوران مع بعضهما البعض بحيث يتحتم نفي أحدهما للآخر وباعتبار وجود كم هائل من التراث المطروح كمحور أصالة كانت المعركة على أوجها بينما لا نلاحظ ذلك في المسرح لضآلة المطروح الذي لا يتعدى تجارب تتماهى مع ما ترجم عن المنظومة التعددية منذ فترة لا تتجاوز القرن والنصف في أحسن الأحوال.
هذا من جهة ومن جهة أخرى قصيدة النثر في أساسها قائمة على التعددية في مختلف جوانبها من التعددية التي تبدأ بالشكل و التي تنتهي بتعددية التأويل. وربما التعددية هو القانون الوحيد المطلق الذي يحيط بهذه القصيدة. فقصيدة النثر لا تطرح استفهامية شكسبير نكون أو لا نكون بل تعدتها إلى كيفية أن نكون.
والقضية غير مستوعبة من الطرفين و نعني بها هنا مدافعي القصيدة الكلاسيكية ومدافعي قصيدة النثر فكلاهما يمتلكان نفس الذهنية إما التحريم أو التقديس فلا استوعب هذا الطرف تعددية الآخر ولا استطاع الآخر التعامل على أساس تعدديته.
ومن المؤسف حقاً في أيامنا هذه ما آل إليه هذا المفهوم الجديد ضمن هذه المنظومة الواحدية فبينما نجد في الطرف الغربي فتح أفاق جديدة أمام هذا المفهوم والدخول في أشكال حداثوية تحمل في طياتها قابلية هذا المفهوم للتطور نجد في الطرف الواحدي النزوح إلى التنميط واتباع أساليب قولبية مكررة بحيث أصبحت قصيدة النثر تعبأ في قوارير جاهزة.
فمن التجربة اللبنانية (تحديداً ما يسمى بجيل الثمانينات) والتي هي استنساخ من الترجمات الفرنسية لنقف أمام التجربة السورية (في نفس الفترة) والتي هي الاستنساخ للتجربة اللبنانية ولن أدخل هنا في تفاصيل الأسماء والمعارك التي قد تنشب نتيجة ذلك وسأكتفي مبدأياً بهاتين التجربتين. حتى أصبح من الصعب التفريق بين ما يكتب هذا أو ذاك لغياب الخصوصية والتي تمنحها قصيدة النثر بأعلى المستويات.
لكن و مع كل هذا التشاؤم لا بد من الاعتراف أيضاً أن هذه البقعة بكل مساوئها أنتجت شعراءً أمثال أدونيس والذي يؤكد أغلب النقاد في العالم أن صوته يكاد يكون الأعلى عالمياً. لكن يبدو أن ذلك إلى الآن لا يتعدى المقولة القائلة بأن لكل قاعدة شواذها و الشواذ تؤكد القاعدة.


ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة