بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

قصيدة النثر وتحولات الشعرية العربية: آفة سد الفراغ!



عبدالعزيز موافي



عن سلسلة 'كتابات نقدية' التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، صدر كتاب بعنوان: 'قصيدة النثر­ وتحولات الشعرية العربية' للدكتور محمود ابراهيم الضبع. والكتاب يحتوي علي خمسة فصول، لم يدرس قصيدة النثر الا في فصل واحد منها، وفصل آخر عنوانه عن القصيدة ودراسته مضت في اتجاه اخر. وبذلك، فان الكتاب يمارس ­بداية من العنوان­ نوعا من الخداع، الذي لامبرر له. وسوف نتوقف أمام تلك المساحة الضيقة، والتي لاتتجاوز 20 بالمائة من مساحة الكتاب، لنري كيف تعامل المؤلف مع هذه الظاهرة الشعرية.
منذ اللحظة الأولي، يبدو المؤلف وكأنه يتخذ موقفا مضادا للقصيدة، هذا حقه بالطبع، لكنه لكي يمارس هذا الحق عليه أولا ان يكون قد استوعب كل النماذج المطروحة علي المستوي الابداعي، وثانيا ان يلم بمعظم­ إن لم يكن كل­ ما كتب عنها علي المستويين النقدي والتنظيري، من باب المخالفة أو الاتفاق. وبنظرة خاطفة علي المراجع التي استند اليها الكتاب، سوف نكتشف أنه لم يقرأ شيئا في هذا الصدد، وهو يشير الي أن مصادره في تناول القصيدة هم: صلاح فضل، ورفعت سلام، وادوار الخراط، وصلاح السروي، وهؤلاء هم كل مالديه. بل أنه يحاول تبرير هذا القصور­ أو التقصير­ في المراجع، بانه (قد مر أكثر من ثلاثين عاما علي ظهور قصيدة النثر، ولم تتصد لها دراسة علمية وموضوعية، سوي شذرات قليلة علي استحياء، من خلال موضوعات اخري)!!. وهو بجانب الدفاع عن تقصيره في الاطلاع علي المراجع، يوهمنا بأن كتابه هو الأول في هذا الصدد. وبصرف النظر عن وهم الريادة، فإننا نشير عليه ببعض المراجع التي كان يحتاج اليها بحثه:
كتيب 'الشعر المنثور' لحسين عفيف الصادر 1936، ودراسة محمد غنيمي هلال عن ديوان 'الأرغم' في مجلة 'المجلة'(العدد 63­ ابريل 1962)، والي الدراسات العديدة في اعداد مجلة 'شعر'، والي كتابات ادونيس، وبول شاؤول، وعصام محفوظ، ويوسف الخال، وغيرهم كثيرون. ثم عليه اعادة قراءة مقدمة ابراهيم فتحي لديوان عزت عامر 'الحدائق الطاغورية'، وكذا مقدمة ابراهيم شكر الله التي صدر بها ديوان 'مواقف العشق والهوان وطيور البحر'. اضافة الي بعض الكتب التي صدرت في مصر أو وزعت بها، حتي لايتذرع بأنه لم يسمع عنها، أو لم يتمكن من اقتنائها، مثل: كتاب 'أفق الحداثة وحداثة النمط' لسامي مهدي، وكتابين لكاتب هذه السطور هي: تحولات النظرة وبلاغة الانفصال' و'ملفات الحداثة'. ناهيك عن عشرات المقالات التي صدرت في الدوريات العربية والمصرية، خاصة مجلة 'الكتابة الأخري'، حيث انه لم يتعرض سوي للشعر المصري، والتي تزخر بالعديد من مقالات النقاد وشهادات الشعراء عن الظاهرة الجديدة، من أمثال: محمد بدوي، وأمجد ريان، ومحمد عضيمة.. ألخ. ولن نذكر له الكتب العديدة التي صدرت في دول عربية اخري، لأنها ليست في متناول يده. وهنا، يطرح السؤال نفسه: هل تم التغاضي عن تلك المراجع من باب الجهل ام التجاهل؟
واذا كان المؤلف لم يستطع التوافر علي تلك المراجع، فلا أقل من دراسة الظاهرة الابداعية ذاتها، وهي سائدة في مختلف الدواوين والدوريات، وهذا لم يحدث مع نص ابداعي واحد. بل ان اغرب ما حدث ان المؤلف حين حاول دراسة النص السردي، الذي يفترض ان قصيدة النثر تنتمي اليه، لم يتناول نصا شعريات، وانما استبدله بنص لمصطفي لطفي المنفلوطي!!
والمؤلف يقرر أنه (اذا كانت قصيدة النثر يصعب تعريفها، فذلك انما كان راجعا الي ما استقر في الوعي النقدي من تعريف الشعر بالموسيقي. لذا فانه ليس من المهم البحث عن تعريف لها)، وهكذا فقد اغلق ملف القضية واستراح. ونحن نشير عليه بأن هناك تعريفات كثيرة في هذا الصدد، لعل اهمها تعريف بوالو، والذي طورته سوزان برنار فيما بعد. كما ان هناك العديد من التعريفات في الكتابات العربية، نذكر منها تعريف ادونيس، وتعريف انسي الحاج، وهما متأثران بسوزان برنار. الي جانب تعريف قصيدة الشعر الحر لتوفيق الصائغ، وجبرا ابراهيم جبرا.
ثم يتحدث المؤلف عن تناقضات مصطلح قصيدة النثر، وهو وان كان محقا في ذلك، إلا أن ذلك الموضوع قد قتل بحثا من قبل، فالمصطلح اصبح سائدا كنوع من 'الخطأ الشائع'، حيث يندرج تحته تيارا قصيدة النثر والشعر الحر. اما كيف يصبح قصيدة ونثرا في نفس اللحظة، فان المصطلح جاء ردا علي التعريف السلفي للشعر، والذي يستند الي الموسيقي العروضية كشرط لازم، فجاء تعبير النثر كصفة سالبة لشرط الموسيقي والوزن. ونحن نري ان المصطلح الأدق هو 'الشعر الحر' خاصة وان التسمية الفرنسية ترتبط بنموذج محدد لايتحقق كثيرا في الشعر العربي، بقدر ما يتحقق نموذج الشعر الحر بمفهومه الانجلو سكسوني. الا ان في استخدام المصطلح الأخير نوعا من المخاطرة، لان التسمية ارتبطت بشعر التفعيلة من قبل. وحتي اذا سلمنا بان التسمية متناقضة، بل وخاطئة، لاشتمالها علي تناقض مبدئي، فما تأثير ذلك علي شعرية النص، اي نص؟
وفي غياب اية مرجعية علمية يستند اليها المؤلف في دراسته لقصيدة النثر، كان من الطبيعي ان يظل دائرا حول القصيدة من الخارج، دون ان يتمكن من دخولها، ليقوم بالكشف عن جمالياتها. واذا كان موقفه المضاد قد منعه من محاولة الاقتراب من جماليات القصيدة، فلقد حاول ان تعيش تلك الجماليات بذاكرة السلف، فكانت النتيجة غير موضوعية. ولدينا شاهد في هذا الصدد، لكنه حاول ان يكون موضوعيا لذلك، فانه وان كان قد انتقد بعض النماذج المطروحة: وتحتاج الي أن تتحول الي شعر (بالفعل).
ورغم ان اية ظاهرة تخضع للدراسة لابد من رصد حركتها داخل الزمن، فيما يسمي ب'تاريخية الظاهرة'، إلا ان المؤلف لم يكلف نفسه التعرض لهذا الجانب، حيث يمتد الحيز الزمني للقصيدة منذ عام 1840 وحتي الان، اي ما يزيد علي القرن ونصف القرن. وهذا لايعني سوي شيء واحد ان قصيدة النثر تحمل بذور بقائها.
ولكي ينفي الشاعر المؤلف سمة الشعرية عن قصيدة النثر، فانه قد توصل الي بعض النتائج التي تحتاج الي مناقشة فالمؤلف يقرر ان سمات 'الحضور بالحضور' في القصيدة، وهو يعني بها السمات السائدة في الوعي النقدي، والتي تحدد شعرية اية قصيدة، هي: الوزن­ القافية­ الايقاع­ الصور البلاغية­ الوجدان أو العاطفة­ الانحراف الدلالي­ الشكل الطباعي. وهذه السمات ليست قارة (أو ثابتة)، كما يحاول المؤلف ان يوهمنا، حيث ان نري ان ماهو ثابت في الشعر يتلخص في الآتي: الازاحة اللغوية­ الاقتصاد الادائي في اللغة الانفتاح الدلالي­ التجانس الكوني. أما الوزن والقافية والصور البلاغية، فهي من تأثير سيطرة الذاكرة السلفية عليه، كما ان سمة الوجدان والعاطفة هي من بقايا ما علق بذاكرته من تأثيرات رومانسية. وفيما يتعلق بالشكل الطباعي، فهو شرط هش، والا وجب ان نضيف الي سمات الشعر الثابتة مادة الكتابة ذاتها (يروي­ لوحة طينية مسمارية­ حجر­ رق­ ورق بأنواعه المختلفة).
وأخيرا يتساءل المؤلف: هل يجوز ان نعلن انتماء قصيدة النثر الي مجال الشعرية.. بوصفها بنية نص يمكن ان تتحقق فيها 'المعاني' التي طالب بها الجرجاني، و'الانحراف الدلالي' الذي دعا اليه مكاروفسكي، وتراكبها اللغوي الذي رآه دي سوسير، والمجاوزة التي وضعها كوهين، والخصائص المجردة عند تودوروما، ومن تركيز الرسالة عند ياكوبسون؟ ونحن لن نعترض علي هذا التساؤل، ولكننا نطالبه بالاجابة عليه، حيث لايمكن الوصول الي نتيجة في هذا الصدد، إلا بالدراسة التطبيقية لمجموعة من النصوص الابداعية.
ونحن نعتقد انه لن يتمكن من ذلك لأسباب عدة، اهمها: انه يدور حول النص الابداعي من الخارج، ولان 'الفيش' التي اعتمد عليها ناقصة تماما. وبالتالي، فلا الذاكرة النقدية او الادوات مؤهلة لتناول هذا النص، والا لتمكن من ذلك خلال الكتاب.
وعلي ذلك، فإن المؤلف لو قام بحذف تعبير 'قصيدة النثر' من العنوان، ليكون 'تحولات الشعرية العربية' فقط، ولو حذف­ في المقابل­ الفصل الرابع والخاص بقصيدة النثر، لغدا كتابه اكثر انسجاما، ولما ضاع جهده هباء لكنها آفة 'سد الفراغ' و'وهم الريادة' هي التي استدرجته الي هذا المنزلق، والذي لايجوز ان يسقط فيه باحث اكاديمي.

الكتاب: قصيدة النثر وتحولات الشعرية العربية

المؤلف: محمود ابراهيم الضبع

الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة


- الأحد 7 ديسمبر - 2003

ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة