عدنان الصائغ
(1)
· لا القوافي ولا الأوزان من ضرورة الشعر كما أن المعابد
والطقوس ليست من ضرورة الصلاة والعبادة. فرب
عبارة منثورة جميلة التنسيق موسيقية الرنة، كان فيها من
الشعر أكثر مما في قصيدة من مئة بيت بمئة قافية.
- ميخائيل نعيمة في الغربال
· إن الصورة الأشد قوة بالنسبة لي هي التي تمثل
الاعتباطية في أعلى درجاتها.
اندريه بريتون
· إن كثيراً من النثر الرديء دخل مجال الشعر باسم قصيدة
النثر أو الشعر الحر.
خليل حاوي
أشار موريس شابلان في أول انطولوجيا عن قصيدة النثر بأنها تحمل ثلاث خصائص هي: " الايجاز والتوتر والجُزاف ". وكان تيودوروف قد ركز في دراسته على " شعرية النثر " من خلال طاقة اللغة الخفية. ومضت سوزان برنار في كتابها إلى تتبع مسيرة " قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا " لتختصر لنا خصائصها بـ " الايجاز، التوهج، المجانبة ". بينما يمكن أن نتلمس خيوطها بحذر في تراثنا العربي القديم من خلال تلك الاشارات النقدية التي نراها هنا أو هناك. اذ يذكر أبن طباطبا: أن " من صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه ". ويسترسل قدامة بن جعفر في وصف مفهوم شعرية الشاعر بقوله: " انما سمي شاعراً لأنه يشعر من معاني القول واصابة الوصف بما لا يشعر به غيره، واذا كان أنما يستحق أسم الشاعر بما ذكرنا فكل من كان خارجاً من هذا الوصف فليس بشاعر وأن أتى بكلام موزون مقفى ". وأذ يرجع كمال خيري بك في كتابه " حركة الحداثة في الشعر العربي " تأريخ الشعر المنثور وثورة شعراء المهجر على قيود الوزن والقافية إلى تأثيرات شعر الموشحات الاندلسية باعتبارها أول ثورة على شكل القصيدة العربية وإيقاعها، رغم أنها أي الموشحات كانت هي الأخرى من نتاج تأثيرات النظم الحياتية والنتاج الشعري الاسباني، فأن د.عبد العزيز المقالح يذهب أبعد من ذلك فيرى أن أساس قصيدة النثر هو الموروث الصوفي والايقاع القرآني، بل يذهب بها البعض إلى النثر الجاهلي والخ والخ ..
ومثلما اشارت برنار وشابلان وتيودوروف وغيرهم إلى خصائصها الفنية واختلفوا واتفقوا، فأن النقاد والشعراء العرب المعاصرين قد تشعبوا في طرقها ايضاً، وتوصيفها وتحديد ملامحها اتفاقاً واختلافاً وما بينهما، فيرى أدونيس أن من أهم ملامح قصيدة النثر هي: المجاز، التفكيك، التبسيط، التوتر، الانحراف الاسلوبي. بينما يركز يوسف الخال على: " البساطة، الحرية، البعد عن الخطابية، البهلوانية البلاغية ". والخ والخ..
واتركْ الآن تاريخيتها لمؤرخي الادب.
واتركْ مقارباتها واختلافاتها بين الغرب والشرق لمدارس النقد المقارن.
واتركْ كل هذا الكم المتزايد من تلال دراسات والبحوث النقاشات حولها وعنها.
ودعها، دعها تحلق في فضاءات المطلق، وتقفز في بحيرات الصفاء، وتركض في حدائق الدهشة، بعيداً عن اختناقات العصر ودخان النقد.
ثم دعها بعد ذلك تسعى إلى ازاحة هذا الركام الكلامي الذي غطى على أعشاب الشعر السحرية وأزهاره الضوئية في غابات الأدب المكتظة بالمنثور والموزون، لكي تتنفس هواء الحرية وترى ضوء الشمس وتصغي لنبض الناس. لكنَّ ازاحة هذا الركام ليس سهلاً بالمرة إذ أمام شاعرها الخلاق مهمة شاقة لغربلة النصوص وزراعة بذوره بين هذه الأشجار الكثيفة، لذا يرى ماكس جاكوب " أن على قصيدة النثر أن تبتعد عن أي مقابلة مع الواقع فلا مجال للمقارنة بينها وبين أي شيء آخر لاقامة التشابه. فقصيدة النثر لا تسعى لخلق شيء سوى ذاتها هي".
وعلى هذا تحاول اختيار وسائلها وسبلها وأساليبها من خلال رؤيتها الجمالية واستثمار انفعالاتها الشعورية الخاصة لتدوين ما لم يدون، والى ذلك يذهب رامبو في قوله: " لقد كتبت عن أشكال الصمت والليالي ودونت ما لا يُعبر عنه " ، وذلك لا يأتي من خلال اجترار ما لفضته أفواه النصوص أو تقليدها أو استنساخها، وكما يذهب الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا في قوله: " قلما أبالي بالقوافي فنادراً ما تتساوى شجرتان متجاورتان " ومن هذا المنظور مضت قصيدة النثر في البحث عن تفردها وسط الغابة المتكاثفة وهذا التفرد فرض عليها أن تبحث عن قوانينها الخاصة والتي ربما تكون غير مرئية من قبل الآخرين. فقد سؤل الشاعر الأمريكي روبرت فروست عن قصيدة النثر فأجاب قائلاً: " هي أشبه بممارسة لعبة التنس دونما شبكة " وحين اعترض أحد الشعراء الحاضرين وسأله عن النماذج الكبرى من قصيدة النثر. أضاف بروست بهدوء وتلقائية وكأنه يكمل ما بدأه: " الشاعر عندها يلعب وكأن الشبكة موجودة بالفعل. لأنه يفترض أن الحكم ـ القارئ مسلح بالقدرة على رؤية الكرة وهي ترتطم بالشبكة أو تتجاوزها " .. وفي هذا الوصف النقدي الرائع تأكيدٌ على أهمية الشبكة والقانون والحكم، لكي تتميز وتتمايز مسارات كرة النص بين يدي الشاعر المبدع ـ اللاعب الماهر، عن مساراتها بين يدي اللاعب الضعيف ـ الشاعر فقير الموهبة.
ولكن في غياب الشبكة تصبح اللعبة اكثر تعقيداً وصعوبة وكذلك الأمر في قصيدة النثر، لذا يقول الشاعر الفنلندي يوئيل ليهتونن "1881-1937" في رسالة خطية الى ناشره عام 1911 عن قطعتين نثريتين لم يشأ أن يحذفهما من مخطوطاته الشعرية: " أن النثر سوف يكشف النقاب عن كيفية ولادة أشعاري الموزونة وهذا سيدهش الكثيرين الذين سيرون فيه ضرباً من الطفولية ومن اللعب السهل، غير أن الحقيقة هي أنني لم أغير وأصقل قصيدة من أشعاري كما فعلت بتلك القصائد الخالية من القافية والايقاع".
* *
(2)
· أحبك بقوة حتى أن غيابكِ يصطفق في داخلي مثل باب في الريح.
لوسيان بيكر
· ينام البحر على وسادته الحجرية.
مهند عدنان (13 عاماً)
· النثر هو الشكل الأصعب بين إشكال الشعر.
ستيفنسون
· إني تخليتُ أمام الضباع
والوحش عن سهمي
لا مجد للمجد فخذ يا ضياعْ
حقيقتي واسمي
محمود البريكان
… ولما كانت القوانين الإبداعية هي التي تميز النص بأن يكون إبداعاً أو لا يكون من خلال منظوماتها وتفاعلاتها بعيداً عن الأسس الجامدة أو الطارئة، فأن كل هذا النفخ التنظيري والنقدي في رماد النصوص المنطفئة لن يجعلها تتوهج أو تتحول إلى جمر، فالجمر في منقلة النص لا يحتاج إلى تنظير أو كشف نقدي لتعرفه ذلك أنك ما أن تراه بعينيك أو تتلمسه بيديك حتى تصطلي به.
ودعْ شأن المنقلة والجمر والنص والتنظيرات النقدية الغربية والشرقية، التراثية والمعاصرة، وتعال معي قبل أن تطمرك تلال الكتب النقدية وتعشي عينيك أضواء الكشافات، لتلمسَ بيديك أية قصيدة: عمودية أم حرة، أم نثر. فإذا أحرقت أصابعك وأشعلت حريقها السحري في غابات روحك فهي شعر … خذها وقل هذا شعر…!! ولا تلتفت للتسميات والتقسيمات والمصطلحات ومعارك النقاد وخبيصة الشعراء … أما إذا أحسستها باردة، ميتة، لا نبض فيها، فهي ليست من الشعر ولا هم يحزنون.
وبساطة القاعدة هذه تكمن في صعوبتها الذوقية التي لا تتأتى إلا بالممارسة والمماحكة والنقد الفطري والعلمي معاً والدربة والقراءة والشغف والمقارنة وحب الجمال وحب الحياة ارتقاءً إلى شمولية النظرة واتساع المعرفة ورهافة الحس، وصولاً إلى قول القائل:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقاً أن يقال له شعر
ثم أترك هذا البيت الشعري الذي ربما يكون أسوأ بيتٍ - من ناحية المبنى لا المعنى – في ديوان الشعر العربي. أتركه لا عليك به ولكن خذ منه معناه في الاستدلال أو الاستشهاد. واتركْ مبناه وخذ منه مفردة واحدة، هي " يهززك ". واتركْ هذه المفردة، وخذ منها حركتها. وتعال نجترح رؤية ومفهوماً في الاهتزاز الروحي الذي تولده القصيدة أو لا تولده اعتماداً على تسريب شحنتها إلى المتلقي. وهذه الشحنة لم تأتِ من فراغ أو هزة طارئة وأنما جاءت عصارة لتأريخ الشعر كله وتقلباته كلها ومنعطفاته كلها منذ المعلقات حتى قصيدة النثر. وكما أن شحنة الإهتزاز لا تفعل شيئاً في جسد ميتٍ كذلك فأن القصيدة الجيدة لا يمكن أن تحدث شيئاً في ذائقة متحجرة أو ميتة…
وقسْ على ذلك، قسْ على هذه القاعدة ما شئت من نصوص وذائقات وقراء ونقاد ونظرات ومهرجانات شعرية لا يحضرها إلا نفر قليل على عدد الأصابع، يخرجون من القاعة وكل يعلق فشل الشحنة على شماعة الآخر. المتلقي يتهم الشاعر بانطفاء شحنة بطاريته الشعرية، والشاعر يتهم متلقيه بالأمية والثقافة الاستهلاكبة، والنقاد منشغلون بتجاربهم النقدية، بينما المراقبون والشامتون يتهمون الجميع بانقطاع سلك الإتصال…
وأخرجْ من المهرجانات إلى الدواوين الشعرية والى المكتبات ودور النشر والصحف والخ، الخ، تجد أن القضية واحدة في تشابهاتها واشكالياتها…
وتفحصْ الدواوين الشعرية: عمودية أم حرة أم نثراً. وتابعْ، تابع مساراتها ومسيرتها تجد القضية واحدة أيضاً…
فالمشكلة لا تتحمل وزرها قصيدة النثر فقط، إذ ستجد أمامك عشرات بل مئات بل آلاف الدواوين العمودية أو الحرة مكدسة على الرفوف تغطيها أتربة الإهمال والنسيان، وتجد أمامك عشرات بل مئات بل آلاف الشعراء من كتبة القصائد العمويدة أو الحرة لا يسمعها في المهرجانات سوى عدة أنفار…
فلماذا الضجيج حول قصيدة النثر؟
هل لأنها كسرت قاعدة عمود الشعر؟ الذي كسرته قبلها القصيدة الحرة والموشحات والبند وأبو تمام وأبو نؤاس والنفري والحلاج والخ… والخ…، فالكسر لا تتحمل وزره قصيدة النثر وحدها إذن …
هل لأن اسمها - كما يدعي البعض - يحمل تناقضاته في المصطلح؟:
فـ "قصيدة" بمعنى الشعر
و"النثر" بمعنى النثر
وجمعهما يحمل تناقضه واختلافاته بنفسه في كونه كمصطلح شائع يحتوي على مفردتين تحيلان إلى عالمين منفصلين لكن أي مصطلح اتفق عليه النقاد كلياً، حتى تبقى المشكلة متعلقة في هذا المصطلح وحده، وقلّبْ بين يديك ما شئت من مصطلحات التناص والشعرية والسرد والبنيوية والشكلانية وموت المؤلف وغيرها وغيرها … ودلني على مصطلح أرضى الجميع.
إن هذه الأسئلة وغيرها تعدينا إلى بدايات كل مرحلة قطعها الشعر أو توقف عندها أو أنعطف منها إلى محطة أخرى على امتداد تأريخه. ذلك لأن " كل أدب جديد هو عدائي. والعدائية تمتزج بالأصالة وهي تقلق ما أعتاد عليه الناس من أفكار " على رأي أوجين أونسكو، لكونه – أي الجديد – ينتهك قوانين النظم القديمة التي اعتادتها الذائقة الاجتماعية في تلك المرحلة الزمنية مجترحاً نظاماً مغايراً يقابل أول الأمر بالغرابة والدهشة والمحاربة حتى يألفه الناس فيغدو طبيعياً وسائداً ويتحول تدريجياً إلى نظام قديم يبحث عمن ينتهك قوانينه …
ويبقى ضرباً من التهويم، ذلك القولُ أن قصيدة النثر ستبقى صالحة للأزمنة القادمة لكونها تعتمد في بنائها على اللغة فقط بكل طاقاتها التعبيرية وتفجيراتها التخيلية، بعيداً عن الاتكاء على الوزن والقافية وبما أن اللغة باقية على مر الأزمان فقصيدة النثر هي الأبقى. هذا الرأي هو حكم مسبق يصادر رأي الأجيال القادمة وينصب نفسه حكماً على ذائقات لم تولد بعد.
لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح الآن: وماذا بعد قصيدة النثر؟ حين تتحول إلى نظام سائد ونمط قديم يبحث عمن ينتهكه ويتجاوزه …
من سيفعل ذلك... ؟ وفي أي زمن أو عصر أو مرحلة ؟ والأهم هو إلى أين يفضي هذا التجاوز ؟ وما هو شكل القصيدة المتخيلة القادمة ؟
وإذا كان أسلافنا يقولون في مثلهم الشائع: هل بعد عبادان قرية ؟ حتى اكتشفنا أن وراء عبدان قرى ومدن وعواصم.
نحن نتساءل بدورنا أيضاً: هل بعد قصيدة النثر من قرية أو محطات أخرى سيمضي إليها أحفادنا ذات يوم وهم يضحكون من قصور مخيلاتنا واكتشافاتنا المحدودة.
وحتى يحين زمن الانقلاب الأبيض على قصيدة النثر ويجترح الجيل القادم شكلها الجديد، سيظل النقاش ساخناً ودائراً بين شرعية قصيدة النثر أو لا شرعيتها مصطلحاً ووجوداً ونظاماً وكأن الشرعية هي صك يمنحه هذا الناقد أو ذاك الشاعر متناسين أو ناسين أن العصر يفرض إنتاج ثقافته وذائقته أو إعادة إنتاج ما سبق بما يتناسب وروحه ورغباته…
ولأن العصر الذي آل إلى النص المفتوح سمح للقصيدة أن تفتح نوافذها كلها لمنح شاعرها وقارئها معاً فضاءً تعبيرياً مفتوحاً لا يحده أي نوع من الوزن والقافية وهذا الانفتاح الذي يحمل في مضمونه أيضاً تفجيراً وحرثاً في أرض اللغة لاستكناه رؤى وطاقات تعبيرية بعيداً عن الدلالات القصدية سيؤدي شئنا أم أبينا إلى الإلتقاء بين حدود الشعر والنثر، ليوصلنا إلى حقول النص المفتوح حيث يمكن أن تؤول إليه سيول قصيدة النثر الجارفة …
* * *
(3)
· إن القصيدة الحقيقية هي تلك التي تستطيع أن تكتبها نثراً.
باسترناك
· أيتها النائمة ياكومة مذهّبة من الظلال والتراخي.
بول فاليري
· اسمعي يا عزيزتي. اسمعي هذا الليل الناعم الذي يمشي.
بودلير
· انفتحت الأبواب بدون ضجة، أنها أجنحة.
تريستان تزارا
يذكر موليير على لسان ارباغون في مسرحية البخيل:
" هيه .. إذن: كل ما ليس شعراً فهو نثر، وكل ما ليس نثراً فهو شعر .. وأنا .. ماذا تسمي هذا الكلام الذي أتكلمه ؟ تسميه نثراً ؟ إذن صار لي أربعون سنة أتكلم النثر ولا ادري .."
بهذا المفتتح الساخر يفتح موليير الماكر أبواب مملكة النثر لكل من هب ودب على ظهر البسيطة، ولربما انطلى مثل هذا القول على الكثيرين الذين لم يستطيعوا ولوج مملكة الشعر لصعوبة اشتراطاتها وأولها الوزن الشعري الذي ينشأ فطرياً وعلى السليقة وليس بحفظ أوزان الخليل بن احمد الفراهيدي، وغير ذلك من الشروط التي تتطلبها كتابة القصيدة العمودية أو الحرة، مما جعلهم يهرعون إلى ركوب موجة قصيدة النثر ظناً منهم أنها لا تتطلب أي شروط سوى ملكة الكتابة العامة وبما أن تلك الملكة مشاعة للجميع، إذاً فقد اصبح جميع الكتاب شعراء قصيدة نثر.
وهذا لا يعني أن كل من كتب وزناً أصبح شاعراً حقيقياً، فالوزن لا يصنع الشعر كما يقول أبو حيان التوحيدي. والمكتبة العربية تضج وتضخ شهرياً آلاف الدواوين الشعرية، لكنك قد لا تجد في بعضها بيتاً شعرياً واحداً رغم أن الكلام الذي فيها مكتوب على الطريقة الشعرية،
لكنني أقول أن نشوء قصيدة النثر وانفتاحها أغرى الجميع أو أن وجودها بلا سياج من الاشتراطات الفنية الظاهرة للعيان أغرى الكثيرين بها إذ اعتقدوا أنها من السهولة بمكان حيث لا تتطلب شيئاً ولا تشترط قانوناً. غير أن هذا الوهم أو التوهم الذي ساقهم إلى فخ قصيدة النثر هو نفسه فخ " السهل الممتنع " الذي قاد موهومي الإبداع على مرِّ العصور إلى تجريب حظهم، ولا بأس في ذلك. وساق جمهرةً كبيرةً من الفنانين التشكيليين لفناء أعمارهم أمام ابتسامات موديلاتهم وفي أذهانهم متحف اللوفر حيث تشع ابتسامة الموناليزا محاطة بالحرس واندهاش ملايين الزوار، وهو نفسه الوهم الذي قاد جمهرةً كبيرةً من الكتاب للكتابة على شكل سطور متفرقة ليس بينها قاسم مشترك لكنها تضم كلمات مثل " الصولجان، مديحي، نشيدي، قبعتي، لفافتي، اللازورد، البرج، المراكب، الأصداف، الأجراس، الحضائر "، ليتوهم أحدهم أنه اصبح سان جون بيرس أو أنسي الحاج أو الماغوط.
إن " النثر هو الشكل الأصعب بين أشكال الشعر " كما يعبر ستيفنسون فحيث تتراكم الكلمات في محيط اللغة وتتشابه الرمال في البحر يكون العمل الأصعب هو العثور على الدرر في البحر والشعر في النثر. وهذه الصعوبة هي التي ميزت شاعراً عن شاعر وكاتباً عن كاتب وغواصاً عن آخر. فالجميع يستطيعون الكتابة أو يمتلكون لباس الغوص لكن القلة الأقل هي التي تأتي بالدرر من بين تلاطم الأمواج والصخور والرمال، أو تأتي بالشعر من بين ركام الكلمات والثرثرات والتنظيرات.
لقد درج البعض من الكتاب والروائيين والقصاصين والمسرحيين والصحفيين من مختلف الدرجات بل وحتى النقاد من مختلف المشارب أيضاً على كتابة قصيدة النثر تنفيساً عما لم يستطيعوا قوله في أعمالهم الإبداعية، ولا ضير في ذلك، فالشعر ليس حكراً على أحد، لولا أن هذا التنفيس " الشعري " يقترب في أحيان كثيرة من الاستسهال، فحيث يستعصي أو يمتنع ويتمنع عليهم التعبير في مجالاتهم الإبداعية الأخرى نراهم يهرعون إلى عالم قصيدة النثر وكأنها البديل الأسهل التي لا تتطلب شرطاً كالشروط والقوانين التي تفرضها عليهم الفنون الأخرى كالرواية والقصة والمسرحية والمقالة والنقد والخ... والأمر الأدهى في ذلك أن بعضهم راح يعقب كتابته " الشعرية " تلك، بتنظيرات نقدية هي اقرب إلى الترويج منها الى النقد الموضوعي، مما أدى إلى تشابك الخطوط لدى المتلقي حيث رأى هو أيضاً أن بإمكانه أن يدلوا بدلوه ، ولم لا، فلا أحد يرى أو يتابع أو يميز في زحمة الدلاء المتزاحمة على بئر " قصيدة النثر " المفتوح بلا حارس أو أجر أو مشقة.
إن لكل فن أو أدب شروطه الإبداعية بل حتى الفوضى الفنية التي نراها في بعض الأعمال الفنية لها قوانينها وكذلك الكتابات الدادائية والميكانيكية وفيوضات اللاوعي عند المبدعين لها أحكامها الخاصة التي يصعب إدراكها للوهلة الأولى. فالدادائية لم تأتِ إلا بعد إرهاصات وعذابات خاصة عاشها جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى حيث فتح ماكس جاكوب وتريستان تزارا وبول ايلوار وغيرهم الأبواب أمام العالم لتجريب الكتابة باللاوعي لمجابهة منطق القرن الشرس الذي أدى بالبشرية الى الدمار والحروب، فأنبرى الكثيرون - خارج الحدث والشعرية - لتقليدهم بالوصفات الجاهزة مما أغرق العالم ولنصف قرن بطوفان من الكلام الذهني المتكلس المبهم وكلهم يدعون أنه حالة من فيوضات لاوعيهم الشعري، إذ لم يروا في مفهوم الدادائية والسريالية سوى إغماض العينين عما حولهم والكتابة وفق ما تمليه اليد الآلية.. وتمادى البعض إلى تجريب المخدرات أثناء الكتابة وفي اعتقاده أن ذلك هو من شروط الكتابة باللاوعي، متجاهلاً الظروف الموضوعية التي انتجت تلك الكتابات الدادائية وغيرها من المذاهب والمدارس الفنية والادبية الأخرى ،وذلك هو فخ آخر من الفخاخ التي نصبتها قصيدة النثر للكثيرين ممن لم يتمعنوا في ظروفها الموضوعية، ولم يروا شروطها أو خيوطها اللامرئية.
* * *
فصول من كتاب بالعنوان نفسه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق