بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

مفهوم قصيدة النثر


فرزند عمر


بالرغم من كثرة ما كُتِب عن قصيدة النثر، لا بد من الإشارة إلى أن النصوص النقدية التي حاولت تناول هذا المصطلح، لم ترقَ إلى مستوى الانغماس الحقيقي مع طبيعة هذا الجنس الأدبي و هويته، فجاءت النصوص النقدية إما بشكل يأخذ طابع الحماس لهذه التجربة، أو طابع العداء له، من هنا و بسبب هذه الإشكاليات، وجدنا نفسنا مضطرين لبعض التوضيح، لأن مفهوم قصيدة النثر بوحدتيها ( مصطلح / معنى) يعتبر من أهم الإشكاليات التي ساقت العديد من الأقلام في صفحات الأدب العربي الحديث.
ومع أن هذا النوع الجديد للنسيج الأدبي الذي اقتحم الساحة الشعرية، و فرض هيمنته الفعلية في أواخر السبعينيات و أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم - بحيث أصبح حتى المعارضون الشرسون لهذا النوع الشعري لا يجدون مصطلحاً لغوياً بديلاً عن قصيدة النثر ينعتون به هذا الكائن الجديد الذي فرض حضوره بقوة - لكن الجدال مازال عن الهوية التي تمتلكها هذه القصيدة، فالمصطلح بشكله اللغوي جاء ترجمة ل Poetic Prose .
و أجدني مضطراً لعدم الخوض في عملية إثبات لوجود هذا الكائن الأدبي، و الذي لا تخلو مجلة أو كتاب عن الإشارة لهذا الجنس الأدبي الجديد، بنعته كمصطلح متعارف عليه و هو (قصيدة النثر) .
لكننا سنحاول الدخول في تاريخ هذا الجنس الأدبي و طبيعته و هويته.

- لمحة تاريخية

مع أواخر القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين، و مع التطور الهائل الذي تعرضت إليه البشرية في العالم، كان لا بد من أن تتفاعل منظومة الثقافة العربية مع تلك التغيرات التاريخية، و كان لا بد من إيجاد صيغ معرفية للدلالة على نتاجات لم تتم صياغتها ضمن هذه المنظومة، كذلك كان لا بد من إيجاد طريقة للمثاقفة مع الآخر في ظل ثورة حقيقية بدأت تقرب المسافات الجغرافية.
وفي ظل الحركة الأدبية الموجودة كجزء من هذه المنظومة الثقافية، بدأت هذه الحركة بالانخراط ضمن هذه التغيرات بخطوات تعثرية تارة وجدية تارة أخرى.
وبدأ القارئ العربي بالاطلاع على منتجات أدبية بمصطلحات جديدة في الساحة الأدبية العربية (مسرح – قصة – رواية – و آخرها قصيدة النثر) لكن الملفت للنظر أن الأشكال الأخرى للأدب - عدا قصيدة النثر – لم تلقى التشنج من قبل المتلقي العربي كما لاقاه هذا الجنس الأدبي، والذي اصطلح فيما بعد على تسميته بقصيدة النثر، على الرغم من أن تلك الأجناس كانت من الجدة ما تفوق قصيدة النثر كالمسرح مثلاً.
والأسباب الكامنة لهذا التشنج تعود في رأينا لما يلي:

1– الإرث التاريخي الثقافي للمنطقة بشكل عام:

حيث أن تاريخ الثقافة العربية من الجاهلية و حتى تاريخ الثورة الثقافية السابقة الذكر، كان في أغلبها مستندة على بنية القصيدة الشعرية الموزونة ذو الشطرين بطريقة أو بأخرى، حتى أنه سمي الشعر بديوان العرب.
مثلاً نجد أن الجوائز الأدبية والتقريب من الحاكم كان في جلها تُرصَد لكتّاب الشعر، بينما النثر في كل أشكاله أعتبر كنمط أدبي من الدرجة الثانية .
وإن الاقتراب من هذه الذاكرة الكبيرة، و محاولة تطعيمها بما هو جديد، لهو أمر في غاية الصعوبة، و إننا نعتبر هذا التشنج مبرراً من الناحية العاطفية الاجتماعية، لكن لا يمكن استهجانه من الناحية الثقافية المعرفية، فالمثاقفة أمر لا بد منه، حتى أننا في هذا العصر نكاد لا نستطيع التعبير عما نريد بدون الرجوع إلى المصطلحات المعرفية التي وردتنا من الغرب

2 – قصيدة النثر كانت كغيرها من الأجناس الأدبية:

لقد جاءت قصيدة النثر في لحظة بدت و كأنها ثورة على ثورة، فالجدال عن مفهوم قصيدة التفعيلة كان مازال في بداياته، جاءت قصيدة النثر و كأنها تعلن نفسها البديل لكل ما سبق، من هنا كانت الصدمة أكبر من أن تستوعب .

3 - إقحام الدين من قبل بعض الكتاب:

إن بعض المهتمين بهذا المجال قام بإقحام الدين الإسلامي، من خلال المقاربة مع كتاب الله عزّ و جل – القرآن الكريم – على أن البذور الأولى لقصيدة النثر تتجلى في كتاب الله عزّ و جل، و الفهم الخاطئ لهذه المقاربة . بالإضافة لما شاع عن قصيدة النثر من مفاهيم تتضمن الهدم للإرث التاريخي، و الدين الإسلامي باعتباره الحجر الأساس في ذلك الإرث الكبير، تخوف بعض رجالات الدين من أن تطال مساحة الحرية الممنوحة لهذه القصيدة ذلك الإرث .

- هوية قصيدة النثر من خلال سرد تاريخي لتطوره 2:

ذهب بعض النقاد إلى إحالة قصيدة النثر كصنف غربي خالص، أتى إلينا في مطلع القرن الماضي من خلال بعض الرواد المتأثرين بشعراء الحداثة الغربيين، أمثال ت.أس .اليوت الإنكليزي و رامبو الفرنسي، و اعتبروه دخيلاً على الشعر العربي و يجب استئصاله، كونه يؤدي إلى نسف الذاكرة العربية، و هدم أسسها المعرفية .
لكن سنحاول من خلال جولة سريعة تاريخية دراسة بذور قصيدة النثر في التراث العربي .

1 – فن المقامات

فن انتشر في القرن الرابع للهجري، و هو عبارة عن مآلفة بين الشعر والنثر، مستنداً على لغة أدبية خاصة، تعتمد على النزوع إلى الأطناب و الإكثار من الجمل المترادفة و التزام السجع للحفاظ على التوازن الصوتي الخاص بالمقامة، و أهم من يمثلون هذا العصر: (ابن العميد والصاحب بن عباد وبديع الزمان الهمذاني وأبي عامر بن شهيد وأبي بكر الخوارزمي) .
و استمر هذا الأسلوب الخاص حتى مطلع القرن الماضي لدى المويلحي، في (حديث عيسى بن هشام) ولدى أحمد شوقي في (أسواق الذهب) .
و فن المقامة تنهل من الطرفين النثري و الشعري معاً، فهو فن نثري شعري، و قد أطلق عليه صفة النثر الفني، ففيه من الإيقاع ما يقارب الشعر، لكنه لا يصله من حيث الوزن و القافية و الشطرين الذين أحاطوا بمفهوم القصيدة آن ذاك .

2 – النثر الشعري لدى الصوفيين :

كحركة موازية لحركة المقامات الآنفة الذكر ظهرت حركة أكثر عمقاً و أكثر تعقيداً لكنها مهمشة و ضائعة آن ذاك بسبب المناخ السياسي السائد حينها، و هي النثر الشعري للصوفيين و نجدها في طواسين الحلاج، ومواقف النفري، ومخاطباته والإشارات الإلهية للتوحيدي، حيث نشهد ثورة باللغة على اللغة لتأسيس مشهد جديد، يكشف عن تجارب روحية هادرة تنزع للتحرر.

3 – النثر الشعري الرومانسي:

ظهرت في مطلع القرن العشرين تجارب تحاول محاولة جادة في أن تغرف من الشعر في أسلوب الكتابة النثرية، و كان أهم من مثل هذه المدرسة ( جبران خليل جبران وأمين الريحاني والرافعي، وأحيانا كثيرة لدى المنفلوطي والزيات وطه حسين) .

4 – الشعر المنثور :

وهي مرحلة تعتبر كمرحلة نضج للنثر الشعري الرومانسي و امتداداً له، و هنا نجد أن التجربة تقترب كثيراً من قصيدة النثر، لا في شكله الظاهري فحسب، إنما في نظامه الإيقاعي الداخلي والخارجي وما يفرضه هذا النظام من هيمنة على البناء النحوي الخاص بشعرية النص، و كبداية لذلك نجد ( قصيدة المساء 1902 لخليل مطران و مرثيته التي أنشدها في حفلة تأبين الشيخ إبراهيم اليازجي، بعنوان شعر منثور 1906، وما كتبه أمين الريحاني اعتبارا من سنة 1907، ثم ما كتبه جبران ) .

5 – بدايات مفهوم قصيدة النثر 3 :

تظهر في جماعة أبوللو في مصر التي أسست مجلة سميت بنفس الاسم في أيلول عام 1932 هذه الجماعة بدأت بتأسيس المفاهيم الأولية لقصيدة النثر، لكن ما كان يعيب عليهم تأثرهم الأعمى بالقصيدة النثرية التي وفدت من الغرب، و التجارب السريالية و الدادئية التي اتخذوا منها نبراساً لتجاربهم .

6 – توطيد مفهوم قصيدة النثر:

بدأت التجارب الجادة لبلورة مفهوم قصيدة النثر لدى جماعة شعر في سورية ( أدونيس _ أنسي الحاج ..إلخ )
حيث أخذت قصيدة النثر تفرض نفسها كجنس أدبي جديد، لها ميزاتها و لغتها الشعرية و اصطلاحاتها اللغوية، معتمدين على تجارب من التراث العربي، وأخص بالذكر الشاعر الكبير أدونيس، حيث نظّر لهذا المفهوم بالإضافة لما كتب .
إذاًمن خلال هذا السرد التاريخي الموجز، لا نجد قصيدة النثر نشازاً، أو ورماً خبيثاً في جسد الشعر العربي، إنما تطوراً طبيعياً لما كان في الماضي، مع مرور بحالات جمود و سكينة، نتيجة الظروف التاريخية التي تعرضت لها المنطقة بشكل عام، و ليس دخيلاً على الشعر العربي أو غريباً عنه، بل حركة تجديد و تطوير طبيعيتين لأي منتج أدبي، فهو لم يكن كما المسرح مثلاً، إذ أن الثقافة العربية لم تسمع بهذا المصطلح قبل قرن و نصف تقريباً .

- مفهوم قصيدة النثر

سنقوم بإيجاز شديد للإحاطة و لو بشكل مختصر بتعريف هذا الجنس الأدبي الذي شكل ثورة في اللغة على كل المستويات صياغة و تركيباً، و فتح آفاقاً جديدة أمام الكلمة، و ارتأينا لتوضيح هذا المفهوم بالقيام على شرح لبعض المفاهيم و ذلك لفهم وشرح هذا الجنس الأدبي الخاص، و سنقوم في البداية بشرح لمفهوم الشعر و شرح مفصل لمفهوم الإيقاع لما فيه من غموض، و علاقته بشكل أو بآخر للمعارك التي نشبت بين الشعراء قديمهم و حديثهم .

مفهوم الشعر :

هذه الكلمة التي ربما إلى الآن - بالرغم من التعريفات الكثيرة التي أحاطت بهذا المفهوم الغامض ( السهل الممتنع ) - لم يستطع الكتّاب وضع صورة نهائية لها، و السبب في رأينا عائد إلى كون الشعر أقرب الفنون إلى اللاشعور، فهو :
أصدق ترجمة لحظية للاشعور المتدفق في لحظة انفعالية أقرب إلى اللاوعي منها إلى الوعي، و الغاية الأساسية منها إعطاء دفقة شعورية، مهمتها الأولى إرجاع السكينة للأنا المزدوجة ( أنا الكاتب و المتلقي ) نتيجة تعرض تلك الأنا لحالات قلق متأتية أصلاً نتيجة وضعها أمام العدم، بغرض مصالحة مع الأنا أو إعطائها قدرة على المواجهة .
و الفرق الجوهري بين أنا الكاتب و المتلقي، هو أنّ الكاتب يتعرف على بقعة القلق الخاصة به قبل هذه الدفقة الشعورية، بينما لدى المتلقي تأتي بعد استقبال هذه الدفقة .
و بهذا يكون الشعر وسيطاً لنقل القلق بين الكاتب و المتلقي باتجاه واحد و هو ( كاتب متلقي )، و يتم ذلك من خلال فهم متبادل للشعور بين الكاتب و المتلقي بأدوات لها قدرة على حمل و إيصال هذه الدفقة الشعورية .
من هنا نجد أن الشعر مرتبط بالذات الفاعلة بالدرجة الأولى ( ذات الكاتب و المتلقي )، و بالحركة بالدرجة الثانية، فهي عبارة عن حركة ذاتية، و كما يشير أدونيس في أكثر من مناسبة أن الحركة تعني التجاوز أي الرفض و الهدم، و الرفض ليس بمعنى العدم، إنما الرفض المبني على الرؤيا، و الرؤيا هي نوع من الاتحاد بالغيب يخلق صورة جديدة للعالم أو يخلق العالم من جديد .
يقول الناقد الفرنسي جان إيف تادية "الشعر فضاء جديد" وربما الأسلوب أو القالب الذي يحمل هذا الانفعال الشعوري هو ما تم الاختلاف حوله، لكن مع الثورة التي سبق ذكرها و التي طالت بنيان اللغة، كان لا بد من توسيع مفهوم الشعر إلى مفهوم أشمل و أوسع من مفهوم الأوزان الخليلية، وهذا ما نحن بصدده .

- ما هو الإيقاع ؟

هناك بعض الحقائق العلمية الطبية أردنا ذكرها كبداية لشرح هذا المفهوم وهي: 4
- حقيقة علمية طبية ومفادها "التنبيه المتناوب للتشكيلات الشبكية الموجودة تحت السرير البصري في الدماغ، تؤدي إلى زيادة في إفراز المورفينات الداخلية، و بالتالي إعطاء حالة استرخاء للجسد البشري، و الاستمرار في هذا التنبيه يؤدي إلى النوم" .
- من الحقائق الطبية الأخرى "الاختلاف في الأنماط الشخصية تعود إلى التنوع الإيقاعي الذي يحيط بالشخصية لا إلى المورثات"
فأي تنبيه غير منتظم لا يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تغيرات فيزيولوجية نفسية في الشخص المعرض لتلك التنبيهات .
- " الإيقاع بكل أشكاله (الحواسي و اللاحواسي) - الحواسي والذي يتم استنباطه من خلال الحواس الخمس واللاحواسي الذي يتم استنباطه من خلال التفكير – في النهاية تؤدي إلى نفس التأثيرات في الدماغ، من خلال إفراز لمادة تسمى بالسيرتونين، و التي تعتبر الوسيط للتنبيهات التي تتم في البنى الشبكية لما تحت السرير البصري، وهي ما أشرنا به في الحقيقة الأولى"
هذه الحقائق الطبية يمكن لمن يريد الاطلاع عليها الرجوع إلى أي مرجع طبي في بحث ( أطوار النوم و فيزيولوجية الدماغ ) .
من خلال تلك الحقائق يمكن تقسيم الإيقاع إلى حواسي و لا حواسي، و تجاوزاً في هذه الدراسة سنقوم بتسمية الأخير بالإيقاع الادراكي الفكري، و ذلك لأنني من خلال بحثي لم أجد أي مرادفة مناسبة تشير إلى هذا النوع اللاحواسي و ذلك للتفريق بينهما .

و ندرج فيما يأتي أمثلة واقعية لتأكيد تلك الحقائق .

1- النشوة التي يصل إليها المتصوفون في حلقات الذكر، والتي تأتي بعد حالة إيقاعية تشترك فيها كلا النوعين ( الحواسي و الادراكي الفكري )، تتطابق مع نشوة مدمني المخدرات، و لمن يريد الاطلاع يستطيع أن يقارن بين الأعراض التي تصيب المتصوف في لحظة التجلي، و الأعراض التي تصيب مدمني المخدرات في لحظات الانتشاء، و إن الإيقاع الصوتي لوحده إن حاولنا فصلها في حلقات الذكر غير كفيلة بإيصال المتصوف إلى تلك الحالة الآنفة الذكر .
2- التنويم المغناطيسي وهو الوصول إلى حالة من الاسترخاء و النوم نتيجة حالة إيقاعية يأخذ الإيقاع البصري فيه الأولوية بجانب الإيقاع الادراكي الفكري.
3- هناك في الطب ما يسمى بالتخدير النفسي، و أثبت العلماء أنه يمكن إجراء العمليات من خلال هذا التخدير، و هو يستند إلى إخضاع المريض لحالات إيقاعية شديدة تؤدي في النهاية من خلال تفعيل حلقة السيرتونين إلى إفراز غزير للمورفينات الداخلية و بالتالي إلى التخدير.
4- تغير التأثيرات الإيقاعية مع تغير الحالة الفكرية للأشخاص، و قد أثبتته التجارب العملية بكل فئاتها، فحالة إيقاعية معينة يمكن لها أن تصل بشخص ما إلى حالة من الاسترخاء، بينما شخص آخر لو تعرض لنفس الحالة الإيقاعية لن يصل إلى تلك الحالة، وهذا دليل على تغير في التأثيرات الإيقاعية بين شخص و آخر.
5- تتغير المفاهيم الإيقاعية الصوتية بتغير البنية الإيقاعية بشكلها الكلي5 فهي في تأثير و تأثر مستمرين، وفي هذه الفقرة ندخل إلى صلب موضوعنا، فالقوانين التي استنبطها الفراهيدي ذات يوم، و التي أعني بها البحور العروضية، كانت متأثرة بشدة بالحالة الإيقاعية التي تحدثها خطوات الجمال.
إذاً الإيقاع متصل مباشرة بالدماغ عبر قنوات ادراكية معينة، مهمتها الأساسية كما أسلفنا السيطرة على الحالات الانفعالية لدى الكائن البشري، وإن هذا الإيقاع وتأثيره على الدماغ مرتبط مباشرة بالحالة الفكرية المعرفية لهذا الكائن أو ذاك .
و عندما نعلم أن قشر الدماغ و الذي يقوم بالسيطرة على كل التنبيهات الواردة إلى الدماغ من لجم أو زيادة تفعيل لهذه التنبيهات، والارتباط المباشر بين القشر الدماغي وعمليات الذاكرة والتعليم، نعلم مدى الارتباط الوثيق بين التعديلات التي تتم لمختلف التنبيهات الواردة إلى الدماغ وذلك بتغير المخزون الفكري من شخص إلى آخر .
إذاً نحن أمام أمرين اثنين متغيرين، التنبيه و مستقبل هذا التنبيه وهما في حالة تأثير و تأثر بالبنية الإيقاعية الجمعية و النتيجة النهائية لتفاعل الاثنين يعطينا حالة شعورية ما
بذلك يمكن الإجابة الآن على السؤال المطروح سلفاً وهو ما هو الإيقاع؟
1– البنية الإيقاعية تعني انتظاماً معيناً محسوساً أو مدركاً و إن كان الإيقاع الصوتي أحد أهم الأنواع المدركة حواسياً أو فكرياً وذلك لتجربة الأذن الطويلة في الإدراك الإيقاعي
2– لهذه البنية مستويان مستوى ظاهر محسوس و مستوى باطن مدرك فكرياً 6
3– المستوى الباطن أكثر تعقيدياً نظراً لتوضعه المخفي (بالنسبة للمنبه و المستقبل للتنبيه) في لاوعي الطرفين، وبما أنه من الصعوبة إدراكه كذلك من الصعوبة وضع قوانين له.
4 – ترتبط البنية الإيقاعية في مستوييها الباطن و الظاهر بالبنى الكلية المحيطة، وأخص بالذكر البنية اللغوية في مجاليها النظمي والإيحائي وهي في تأثر وتأثير مستمرين.
5– للإيقاع وظيفة مهمة وتكمن في تنظيم وظائف الدماغ، وأكبر مثال عليها النوم الذي يعتبر السبيل الوحيد لاستعادة الدماغ نشاطه من جديد، فهو يأتي في شكل إيقاع فكري خالص من خلال التنظيم الدوري للحلم خلال النوم (أطوار النوم)، بحيث أن الشخص عندما ينام يمر بأربع أو خمس أطوار متكررة، يمتد كل طور حوالي الساعتين، في نهاية كل طور يتم استدراك الماضي من خلال عمليات فكرية معقدة و هو ما يسمى بالحلم، و ضمن الطور الواحد هناك تواتر لعمليات إيقاعية فيزيولوجية متشابهة في كل طور.
وربما يتساءل سائل أن الشخص لا يدرك سوى حلم واحد، وهذه أيضاً حقيقة، فلا يمكن تذكر الأحلام الأربع أو الخمسة كلها، ويتم تذكر الحلم الأخير والذي يتم الاستيقاظ أثناءه .
6– من خلال الفكرة الخامسة نصل إلى الفكرة السادسة وهي أهمية الإيقاع الادراكي الفكري كوظيفة دماغية، على الرغم من أهمية الإيقاع الصوتي لسهولة إدراكه.

- الإيقاع الشعري:


الفن مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقلق فهو المصنع الرئيسي الذي تتم فيه العمليات المعقدة لأي حالة إبداعية.
والقلق هي حالة من اللاتوازن النفسي التي تصيب الأنا، ضرورية لاستمرارية هذه الأنا في المسيرة الحياتية، عبر عمليات أشبه بالشحن و التفريغ.
فالقلق المتأتي بالدرجة الأولى نتيجة وضع الأنا أمام العدم، هذا القلق المدرك من خلال الشعور بالفراغ وأبعاده المبهمة، لا يجوز أن يستمر، لأن استمراريته تؤدي إلى اضطرابات عميقة في الحالة النفسية و بالتالي إلى ما يسمى بالأمراض النفسية المعروفة .
لذلك كان لا بد من إيجاد عمليات تفريغية في سبيل الوصول إلى حالة من التوازن، الذي يمكن له وفي أي لحظة أن يختل من جديد، لتبدأ الأنا في البحث عن وسيلة جديدة للإفراغ.
وكلما كانت عتبة الاستثارة للأنا منخفضة (عتبة الاستثارة و نعني بها الطاقة أو الموقف الذي بإمكانه إدخال الأنا إلى حالة القلق المخلة بالتوازن المذكورة سابقاً) كلما كانت الذات قريبة من الإبداع في أي لحظة و أخص بالذكر الإبداع الفني.
وإن عمليات الإفراغ لهذا القلق المتولد، تتم عبر عدة أقنية وإن كان الإفراغ الجنسي هو الأهم حسب نظرية التحليل النفسي7 لكن و حسب نفس النظرية وتعديلاتها التي أتت فيما بعد فرويد - أمثال ايرك فروم و يونغ - تؤكد أن طرقاً أخرى تشارك في المسألة الافراغية و نذكر منها:
- التسامي: وذلك من خلال التمسك بالفضائل والأخلاق السامية كما نجدها لدى الرهبان.
- عن طريق الإبداع: و هو موضوع بحثنا، فالمبدع يحاول تفريغ شحنة القلق من خلال حالة إبداعية تحمل قلقه باتجاه الغير المرتقب وهو المتلقي .
- هناك عمليات معقدة: لا داعي لشرحها هنا كالنكوص و التفريغ المرضي.
نصل في النهاية إلى أن الإبداع حالة صحية تبحث فيها الأنا السليمة عن وسيلة لتفريغ القلق الناشئ و الضروري لاستمرارية الأنا في الحضور ضمن الجماعة.
وندخل بذلك إلى صلب موضوعنا وهو الشعر كحالة إبداعية لها خصوصيتها، تتأتى هذه الخصوصية من كونه أقرب الحالات الإبداعية للاوعي - المبهم المعالم – الممثل لتلك الحالة الشعورية، التي تحمل كمية كبيرة من القلق، أكبر من الكمية التي تحملها الأجناس الأخرى من الأدب، والذي يحتاج بدوره إلى أدوات مساعدة قادرة على حمل هذا القلق و إخراجه من الذات الشاعرة باتجاه المتلقي المفترض.
ويأتي هنا دور الإيقاع كأداة هامة مساعدة لحمل هذا الكم الهائل من القلق المتأتي من تلك الحالة الإبداعية الخاصة.
لذلك كله آثرنا أن نقول أن الشعر = إيقاع و هذا أمر لا يختلف عليه اثنان قديمه وحديثه
لكن ما هو الإيقاع و الإيقاع الشعري تحديداً .

- تعريف الإيقاع الشعري:

يمكن تعريفه الآن من خلال كل ما سردناه عن الإيقاع و الشعر و علاقته بالذات الشاعرة و اللاوعي لتلك الذات بالشكل التالي:
بما أنه إيقاع إذا فهو حالة من الانتظام للتنبيهات الواقعة بين سكونين سكون البداية و سكون النهاية و بما أنه شعري فهو يحمل صفة معينة و هي الشعرية، و كما نوهنا أن الإيقاع وجد لأداء وظيفة دماغية، إذاً فهو:
عبارة عن تنبيهات منتظمة تقع بين سكونين تصل الدماغ (دماغ الشاعر والمتلقي) ليقوم هذا الدماغ على إرجاع السكينة للذات المتفاعلة (ذات الشاعر والمتلقي ) بغرض مصالحة مع الأنا أو إعطائها قدرة على المواجهة.
أما بالنسبة لموضوعنا الأساسي الشعر وكيفية تجلي الإيقاع في الأجناس الشعرية المختلفة من قديمه إلى حديثه فنقول:

- الإيقاع في القصيدة العمودية أو قصيدة الوزن:

ويشترك فيه أكثر من نوع من الإيقاع

1– الإيقاع السمعي:

وهو الإيقاع الواصل إلى الدماغ من خلال إدراك الأذن للموسيقى المتأتية من الموسيقى الظاهرية للنظام الصوتي للحروف، و المنتظمة في نظام تعارف عليه بالبحور العروضية، و هي البحور التي تم وضعها من قبل أبو خليل الفراهيدي مع القافية التي يجب الالتزام بها من قبل الشاعر، و التي تضيف إلى البحور إيقاعا صوتياً إضافيا .
و كلنا يعلم أن القوانين التي وضعت من قبل الفراهيدي كانت قوانين استنتاجيه للقصائد التي جاءت من قبله، هذه القوانين التي فرضتها البنية الإيقاعية الجمعية المدركة من خلال الطبيعة ( تأثرها بخطوات الجمال).
و يخطر في بال أحدنا سؤال:
على ماذا كان الشعراء يعتمدون قبل الفراهيدي؟
هل كان الفراهيدي هو الحكم فيما بينهم؟
إذاً نستخلص من كل ذلك أن الإيقاعات الصوتية السمعية إذ جاءت كضرورة من ضرورات الشعرية آن ذاك، و تم التركيز على الإيقاع السمعي و ذلك لسهولة الإدراك السمعي للإيقاع - هذا ما أشرنا به سابقاً - إذ أن الإيقاع السمعي لا يحتاج إلى عمليات فكرية كبيرة.

2 – الإيقاع البصري:

ونراه من خلال التنضيد الذي يتم للبيت الشعري الواحد في شطرين مع القافية المتكررة آخر كل بيت.

3 – الإيقاع الادراكي الفكري:

والتي تأتي من خلال الانكساريات المتعددة وبؤر التوتر التي تحملها القصيدة ومن خلال الصياغة اللغوية و الصور البيانية والجماليات التي تتمتع بها القصيدة الشعرية.
وهنا أطرح بعض الأسئلة التي يمكن أن تفيدنا
- في أيامنا هذه بعد تطور وسائل التعليم كيف يمكن للأصم استساغة قصيدة شعرية ؟
- أليس من حقه في أن يرقي نفسه و يخلصها من القلق ؟ و ذلك باعتبار ما للشعر من وظيفة كما أسلفنا سابقاً .
- أيمكن للأوزان الخليلية أن تفيد الأصم !؟
- كيف يمكن أن نبرر سقوط كثير من الشعراء الماضين من القاموس الشعري العربي مع أنهم كانوا ملتزمين بالأوزان العروضية؟
- كيف يمكن أن نبرر وقوف قصيدة النثر موقف الند للند مع القصيدة العمودية في أيامنا هذه ؟ مع أن هذه الأخيرة لم يمضي عليها أكثر من نصف قرن مقابل تراث يصل إلى العشرين قرناً و أكثر .
- و إن كان الأمر ليس كذلك لماذا هذه الحرب بينهما؟
- ألا يمكن أن تحمل قصيدة النثر شعرية حقيقية نحن غائبين عنها و إلا لما استمرت؟
- أهو الغرب فعلاً شماعتنا الجاهزة بأن نعلق عليها كل الأشياء التي نظنها رديئة؟
- لماذا لا نحاول البحث و التقصي؟

- الإيقاع في قصيدة النثر

على ضوء ما ذكرناه عن مفهوم الإيقاع نصطدم سلفاً بما أوردناه من علاقة الانتظام مع الإيقاع، و علاقة القصيدة النثرية بتحطيم القوانين .
ربما هذه النقطة بالتحديد هي أكثر النقاط شائكة في بحثنا، فهي النقطة الرئيسية التي تم الجدال حولها باستمرار بين مدافعي قصيدة الوزن و مدافعي قصيدة النثر، وهي التي أودت بكثير من المتطفلين على حشر نتاجاتهم ضمن هذا الصنف الأدبي الجديد الذي لا قوانين له و لا حساب و لا محاسبة، مما استدعى وقوف الطرف الآخر و نعني مدافعي قصيدة الوزن موقف المتفرج الفرح، لأن ما كانوا يحذرون منه قد حدث، و نسي الاثنين أن الحرية هي عبارة عن فسحة الحركة المتاحة بين الخطأ و الصواب، و مهما بلغت الحرية فهي لا تعترف بالقتل كفعل يجب امتلاكه كي نكون أحرار .
إذا نحن أمام معضلة كبرى أو متناقضات كبيرة مثل (فوضى / انتظام).. ( حرية / قوانين)...(هدم / بناء)...(كسر الوزن / موسيقى)...(حركة / سكون).
وهذه المتناقضات هي أساس القوانين الإيقاعية التي تبنى عليها قصيدة النثر .
و هنا أطرح تساؤلات
أليست الحرية بحد ذاتها قانوناً؟
لماذا الغضب والتشنج الذي يصيب معتنقي قصيدة النثر كلما جاءت سيرة القوانين؟ لماذا كلما دق الكوز بالجرة تأتي سيرة الحرية؟ وأنها سبب البلاء، و أنها سوف تصبح وباءً علينا، و أن مجتمعنا لديه قوانينه الأبدية، وأن الهدم لن يصحبه الا الاستغناء عن الماضي ... وما إلى هنالك من كلمات و جمل يتذرعون بها مدافعون قصيدة الوزن.
من قال ذلك؟
هل استغنى رواد قصيدة النثر عن الماضي؟
لماذا إذاً عذّب أدونيس نفسه و ضيع وقته لدراسة الماضي و إحيائه من جديد؟ ...
هل من مجنون واحد حتى أولئك المتطفلين على قصيدة النثر قال مرة أن المتنبي ليس بشاعر؟
هل قُرِأتْ قصيدة للحطيئة أو امرأ القيس أو أبو تمام أو ... الخ و تم رفضها؟
لماذا نحاول دائماً أن نبني حروبنا على أساس نفي الآخر؟

- الإيقاع الظاهري:

ويوازي الإيقاع السمعي و البصري الذي تحدثنا عنه في قصيدة الوزن .
ويعتمد على البنية الصوتية للحروف كما في قصيدة الوزن، لكن ليس بترتيبية الفراهيدي و الأوزان العروضية، إنما من خلال مبادئ خاصة، من أهمها على سبيل المثال و ليس الحصر، التكرار المقطعي في ترتيبية صوتية معينة ضمن المقطع الشعري الواحد، أو التكرار اللفظي لبعض الكلمات التي يريد الشاعر إعطاءها الأهمية في الإظهار، و إلى ما هنالك من أساليب اتبعها بعض شعراء الحداثة لإطفاء روح من الغنائية، والتي هي غير ضرورية لبناء قصيدة النثر، فالإيقاع الظاهر لا يأخذ الأهمية هنا كما في شعر الوزن.

- الايقاع الداخلي:

و هو نفسه الإيقاع الادراكي الفكري الذي تم بحثه في قصيدة الوزن هذا الإيقاع يتبلور في قصيدة النثر عبر عدة مفاهيم نذكر منها :

- مفهوم وحدة الأضداد :

وهو المفهوم العام الذي منه تتفرع باقي المفاهيم، فكما أسلفنا سابقاً من خلال عرضنا لمفهوم الإيقاع و الإيقاع الشعري، أن قصيدة النثر تعتمد على متناقضات كبيرة أمثال فوضى / انتظام – حرية / قانون – حركة / سكون – كسر الوزن / موسيقى.
هذه المتناقضات هي أساس القوانين التي تبنى عليها قصيدة النثر، و نسوق هنا تصورنا عن هذا المفهوم.
قبل كل شيء لا بد من تنويه عاجل إلى الطبيعة البشرية، و التي منذ أن وجدت و هي في عراك مرير مع سلطة الفضاء الخارجي، و الصيغ التي يبتدعها للتخلص من تلك السلطة، من هنا كانت الحرية، الحلم الكبير الذي مازال الإنسان يبحث لها عن معناً حقيقي، هذه الحرية التي أفردت لها صفحات من التاريخ، عن الحلم الذي راود البشر في التحليق، و التخلص من سلطة الطبيعة المدركة على أنها تلك الجاذبية التي تربطه بالأرض.
لذلك نجد الإنسان دائم المحاولة للوصول إلى نقطة تنعدم معها القوى، في هذه النقطة التي تقع بين نقيضين، يشعر معها الإنسان بالنشوة و القلق في نفس اللحظة، لما تحمله هذه النقطة من إحساس بالعدم و إحساس موافق بالأمان الذي يأتي نتيجة التخلص من سلطة الفضاء الخارجي، إنه الضياع اللذيذ .
والتي على أساسها كانت تدور أغلب النظريات الفلسفية و الدينية، فمن فرويد و الذي يعتبر الأنا هي نقطة الصراع بين الهو والأنا الأعلى، هذه الأنا الواقعة بين الوعي واللاوعي، إلى كل الأفكار الدينية التي تؤكد أن الإنسان هو نتاج لقوتين أساسيتين بين الخير و الشر، فالإنسان هو مساحة الحرية الحقيقية في الطبيعة والذي في بوتقته تنصهر قوى الطبيعة سالبها مع موجبها .
والإنسان في دأب مستمر لأن يبرز مفاتنه، و الفن أحد أهم الوسائل المتاحة لذلك وقصيدة النثر التي برأينا هي الأرقى حالياً، كأسلوب يحمل نتاجاً فكرياً بشرياً جمعياً من خلال استناده على كل التقنيات الفنية، ومن خلال مساحة الحرية التي تمتلكها هذه القصيدة، كان لا بد لها أن تبرز هذا التناقض وتوحده ضمن جسد القصيدة .
لذلك نجد الصورة الشعرية و الصياغة اللغوية و المعنى في قصيدة النثر مبنية على وحدة المتناقضات، كأن يقول شاعر مثل محمد الماغوط مثلاً " لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء " أو كما يقول أدونيس في مقدمة لملوك الطوائف " وجه يافا طفل / هل الشجر الذابل يزهو؟ / هل تدخل الأرض في صورة عذراء؟ / مَنْ هناك يرجّ الشرق؟ / جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل/ صوت شريد .. / " فالخراب لدى أدونيس يحمل الجمال .

- مفهوم التركيب والصياغة:

التركيب:
وهو أقرب ما يكون إلى العلاقة النحوية، و بالتالي هو أقرب إلى النظام و الثبات أي السكون .
بينما الصياغة:
تشير إلى تفجير هذا النظام وخلخلة التركيب اللغوي المألوف لإيجاد بنى تعبيرية جديدة وخلق حالة من الحركة داخل السكون، وهنا يكمن قدرة الشعر على خلق لغة خاصة به .

- مفهوم التوتر والتوتر ضمن النص:

التوتر وهو البؤرة الانفعالية التي لا يخضع لها الشاعر و المتلقي بطريقة عادية - و المقصود بكلمة عادية كل ما يتفرع عنها من تداع و حلم و انسيابية - وإنما توقظه و تثيره و تهز كيانه، أو بمعنىً آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية.
وهذا التوتر ينشأ داخل النص من التقاطعات التي تكونت منها بنيته، ومن علاقات التضاد المتمثلة بانكسار سياقه اللغوي، و ما يحمله إلينا من اضطراب في مفاهيم الصيغ وعلاقاتها، و قيمة التوتر تأتي من كونه يساعد على تعميق دلالات النص، ويعمل على تحريك الشعور عند الشاعر والمتلقي على السواء، وبالتالي على التوصيل الدقيق للحالة الشعورية لدى الكاتب .

- مفهوم الصورة الشعرية:

وهي حركة ذهنية تتم داخل الشعور، لكنها في ذاتها تعد انعكاسا مكثفاً لمختلف جوانب الطبيعة و المجتمع و ظواهرها مع الاحتفاظ بخصوصية التجربة و فرادتها، كما تدل على أشياء غير مرئية موجودة في وجدان الشاعر، ترسخت عبر المسيرة الحياتية، و هنا يتدخل اللاوعي لدى الشاعر في تشكيل الصورة بحذف أو إضافة ما يراه ملائماً لإخراجها صورة شعرية لها خصوصيتها الناجمة عن الحالة الانفعالية للشاعر .
و بذلك فالصورة الشعرية: هي عبارة عن عكس للب الظواهر من خلال الفردي الذاتي و خصوصيته فهي تدل على العام من خلال الجزئي من الظاهرة .

- مفهوم وحدة القصيدة :

وهي موجودة بشكل رئيس في قصيدة النثر، حيث أن القصيدة تدور حول فكرة جوهرية أصلية تتفرع عنها مجموعة من الأفكار الجزئية التي لا يمكن فهمها إلا من خلال إضاءة الفكرة الرئيسية و بلورتها.

- مفهوم التكثيف:

يقول النفري "كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا" من هذا المبدأ يكون للتكثيف أهمية قصوى لإحاطة الجزء بالكل، والذي هو هدف الفن الحقيقي، والتكثيف ليس بمعنى الشطب الذي يؤدي للإبهام، إنما بمعنى الاختزال المبني على رؤية شاملة للفضاء الخارجي، وخلق حالة من التوتر قادرة على حمل القلق الذي تحدثنا عنه .

- مفهوم الرؤيا:

يشير جبران خليل جبران في أحد رسائله إلى ماري هاسكل سنة 1929 إلى أن الطموح الجوهري للإنسان الشرقي هو أن يكون نبياً، و النبوة بهذا المعنى ليست النبوة الدينية، إنما النبوة بمعنى الإدراك العميق لما يدور حوله و استقراء الغيب من خلال رؤية عميقة للمستقبل ترتكز على فهم عميق للواقع .
ويعرف ابن خلدون الرؤيا على أنها "مطالعة النفس لمحنة من صور الواقعات مقتبساً بها علم ما تتشوق إليه من الأمور المستقبلية"
بهذا المعنى يجب على الشاعر أن يمتلك رؤية واضحة للمستقبل تمكنه من الانخراط مع الواقع والمصالحة معه، و ربما نسوق هنا مثالاً قريباً عن تلك الرؤيا التي يمتلكها الشاعر الحقيقي، عندما تناقلت الأخبار الثقافية مدى تقاطع أحداث 11 سبتمبر مع مضمون قصيدة قبر لنيويورك للشاعر أدونيس، علماً بأن الأخير قد كتب تلك القصيدة قبل الأحداث بعشر سنوات تقريباً.
من كل ما سبق نؤكد على

أولاً – الشعر = إيقاع :

وهذا متفق عليه، كذلك كل أنواع الفنون لكن الشعر له ارتباط حميم به، وذكرنا الأسباب النفسية لذلك، لكن الإيقاع لا يعني الأوزان الخليلية بل الأوزان الخليلية هي أحد الأساليب المتخذة لبلورة هذا الإيقاع.
هذا الإيقاع الذي هو عبارة عن تنبيهات تأتي من العلاقة بين العناصر المكونة لبنية القصيدة، و تأتي في القصيدة الشعرية الموزونة من المصدر الصوتي للكلمة بشكل أساسي، و بشكل ثانوي من الدلالات اللغوية للكلمة.
بينما في قصيدة النثر، يعتبر الإيقاع حاصلاً للعلاقات الداخلية للقصيدة، أي هناك ارتباط وثيق بالدلالة المرتبطة أساساً بالصياغة اللغوية، هذه الصياغة التي هي عبارة عن سلسلة من الحركات الصوتية المقترنة بسلسلة من الحركات الفكرية.
وبهذا يكون الإيقاع في قصيدة النثر حركة مرتكزها الأساسي الدلالة اللغوية المصاغة، تسير مع النص وتنهض في نسيج مكوناته لتوليد الدلالة النهائية، بحيث تكون هناك علاقة تأثير و تأثر بين الإيقاع و الدلالة .
وبهذا نجد أن الإيقاع له صلة وثيقة بالقصيدة بشكليها الموزون والنثري، وذلك لتمكين الشعور من السيطرة على الحالة الانفعالية من قبل الكاتب و المتلقي، وربما هذه النقطة هي أكثر النقاط خلافاً بين مؤيدي قصيدة الوزن و مؤيدي قصيدة النثر.
ولا أجد أي مبرر للغضب و المشاحنات عندما تتبدل الأساليب لتأدية نفس المهمة.

ثانياً – قصيدة النثر ليست جنساً غريباً:

حتى أننا لا نجد أي مبرر لهذا المصطلح، الذي ربما في بعض جوانبه يحمل الاغتراب و الانفصال، لأنه جاء كتكريس للترجمة الحرفية من المصطلح الأجنبي، و برأينا الشخصي يجب التخلي عن هذا المصطلح و الاستبدال بقصيدة شعرية، فقصيدة النثر هو امتداد طبيعي لما كان، فالشعر هو شعر مهما تغيرت الأساليب .

ثالثاً – الأوزان الخليلية ليست مقدسة:

الأوزان الخليلية وضعها بشر في حقبة ما، وما يضعه البشر قابل للتطوير والتجديد والحذف والشطب و ما إلى ذلك من عمليات بشرية، وإن هذا التقديس للأوزان الخليلية لا نجد له مبرراً .

رابعاً – قصيدة النثر ليست بديلاً عن أي جنس أدبي:

قصيدة النثر لا تعرض نفسها بديلاً يقوم على رفض الآخر (قصيدة الوزن)، بل العكس تماماً مؤيدي هذا النوع الثاني ونعني قصيدة الوزن يحاولون شطب الآخر و نفيه، بينما أهم الأسس التي تقوم عليها قصيدة النثر هي الاعتراف بالآخر .

خامساً – كل فن فيه السيئ والجيد:

كما هي قصيدة الوزن لا تصل إلى الكمال، قصيدة النثر كذلك، وكما في قصيدة الوزن متطفلون، في قصيدة النثر نرى ذلك، وربما أكثر من ذلك لاستسهال الموضوع و عدم فهمهم للأصول الأدبية، و هذا شيء جد طبيعي والزمن كفيل بالتصفية .

سادساً – ضرورة التقصي والتدقيق قبل إطلاق الأحكام الهوجاء :

النقطة الأخيرة مع أنها ربما كانت نشازاً عن الموضوع، لكننا رأينا ضرورة ذكرها من مبدأ أن لكل قاعدة شواذها، والشواذ تؤكد القاعدة، وهي النقطة التي دعتنا للقيام بتحضير هذه الدراسة المتواضعة لتسليط الضوء على مفهوم ربما كان الجدال عليه قبل عقدين من الزمن مبرراً، لكني و بمفاجئة مثيرة للريبة وجدت الموضوع مثاراً إلى يومنا هذا و أرجو أن أوفق فيما أتيت.

المراجع :

- الوعي والفن - تأليف غيورغي غاتشف - ترجمة د.نوفل نيوف - سلسلة عالم المعرفة العدد 164
- هاريسون مبادئ الطب الباطني
- أسرار النوم – عالم المعرفة – عدد 163
- محاضرات تمهيدية جديدة في التحليل النفسي - تأليف سيجموند فرويد - ترجمة عزت راجح 1990
- الثابت و المتحول – أدونيس – الطبعة الخامسة 1986
- تقابل الفنون – ايتيان سوريو – ترجمة بدر الدين قاسم الرفاعي – منشورات وزارة الثقافة السورية 1993
- دراسة للشاعر شريف رزق بعنوان المفاهيم النظرية للأنواع الشعرية في شعر ما خارج الوزن قصيدة الشعر الحر – قصيدة النثر – النثيرة و المنشورة في العدد الخامس عشر من مجلة نزوى العمانية
- فلسفة بنية الإيقاع للدكتور علوي الهاشمي العدد 20 من كتابات معاصرة 1994
- قضايا الإبداع في قصيدة النثر – يوسف حامد جابر – الطبعة الأولى 1991 عن دار الحصاد بدمشق

هوامش:

1- أقوم على تسمية هذه المقالة إن صح التعبير بدراسة وأعلم أنها لا تمتلك الأسس الحقيقية للدراسة كونها في أغلبها تعتمد على رؤية شخصية خاصة لقصيدة النثر و لا تعتمد على مراجع توثيقية إلا في السرد التاريخي لتطور هذا المفهوم لكننا ارتأينا على هذه التسمية لما وجدنا فيها من بحث اعتمدنا فيه على مخزوننا الفكري من خلال القراءات المتعددة حول هذا المفهوم و أعني به قصيدة النثر .
2– التسلسل التاريخي لتطور قصيدة النثر مأخوذ في أغلبه من دراسة للشاعر شريف رزق بعنوان المفاهيم النظرية للأنواع الشعرية في شعر ما خارج الوزن قصيدة الشعر الحر – قصيدة النثر – النثيرة و المنشورة في العدد الخامس عشر من مجلة نزوى العمانية و من كتاب الثابت و المتحول لأدونيس
3– لا يجب أخذ التسلل التاريخي بحذافيره فمثلاً نجد خاصة أن المراحل الثالث والرابع و الخامس هي مراحل متداخلة و تتأثر ببعضها البعض و يمكن اعتبار الثلاث كبداية لتوطيد فكرة قصيدة النثر لكن جماعة أبوللو تحديداً قامت على ترسيخ المفاهيم النقدية والتنظيرية حول قصيدة النثر لكن في أغلبها كانت تدور حول نتاجات غربية و ترجمات كان يقوم بها أعضاء هذه الجماعة
4- يمكن الرجوع إلى هاريسون مبادئ الطب الباطني المجلد الرابع نسخة مكتبة الدار المعلقة الجامعية في دمشق 1998 تقديم وإشراف الدكتور مفيد جوخدار ص 2563 تحت عنوان الببتيدات الأفيونية داخلية المنشأ و كتاب أسرار النوم العدد 163 الصادر عن عالم المعرفة
5- فلسفة بنية الإيقاع للدكتور علوي الهاشمي العدد 20 من كتابات معاصرة عام 1994
6- الفقرة 2 و3 و4 من نفس المصدر السابق فلسفة بنية الإيقاع للدكتور علوي الهاشمي
7- محاضرات تمهيدية جديدة في التحليل النفسي - تأليف سيجموند فرويد - ترجمة عزت راجح 1990

ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة