بحث هذه المدونة الإلكترونية

24‏/02‏/2023

قصيدة النثر السعودية بين اليومي والهامشي والعادي

علي الشدوي

علي الشدوي (*)


اتفق او اختلف مع الدكتور صالح معيض الغامدي في دراسته (إشكالية قصيدة النثر في السعودية) التي القاها في ملتقى قراءة النص الادبي الرابع, ونشرتها مجلة علامات, وربما اختلف معه في اختيار ديوان (مؤقتا.. تحت غيمة) نموذجاً لقصيدة النثر في المملكة.
لكنني حتما سأحترمه باحثا محايدا وموضوعيا, وسأحترم دراسته لانها من الدراسات الاولى الجادة والهادئة في تناول اشكالات قصيدة النثر في ساحتنا الادبية. ان فكرة أي دراسة تأخذ شكلاً قبل كتابتها, وكلما كانت فكرة الدراسة محددة بدقة صار عرض الدراسة اكثر تحددا, وهذا ما تحقق في هذه الدراسة.
يكفي ان اقارنها بالدراسات التي نشرتها مجلة علامات في الموضوع ذاته او في موضوعات اخرى, حتى الاحظ الفرق في تصور الباحثين للمعرفة ولتكوين المعنى او ما يعبر عنه الدكتور محمد ربيع الغامدي بحضور المعلومة والرؤية في هذه الدراسة, وبين حضور المعرفة (المعلومة) في كل الدراسات, وغياب تكوين المعنى (الرؤية) في اغلبها.
تتضمن الدراسة تأملاً حاذقاً حينما اعتبرت مجانية قصيدة النثر او (لا وظائفيتها) احد اهم الاشكالات التي تواجهها مع قرائها في ساحتنا الادبية, وبعد ان استعرضت آراء بعض الشعراء, خلصت الدراسة الى تحديد اهم معالم قصيدة النثر عند كثير من مبدعيها في ساحتنا الثقافية.
تتحدد هذه الملامح في الاحتفاء بدقائق الحياة العصرية وتفاصيلها, والاهتمام بالانسان الكوني وقضاياه, والبعد عن كل ما هو ايديولوجي او جغرافي او خصوصي, والبرجماتية في التعبير عن بعض قضايا الامة عن طريق التكثيف والتعميق, والغنائية الذاتية.
اجد من الصعوبة تقديم صورة تثبت سمات كل الشعراء, وعلى افتراض ان الشاعر يكتب قصائده بعيداً عن أي قيود اجتماعية او ادبية تفضل موضوعات معينة, فإن الفرصة سوف تسنح له لكي يكون مستقلا, وان ينطلق بحرية تبلغ بالموهوبين حدا يكتشفون عنده جماليات جديدة يضيفونها الى الشكل الذي يشتغلون عليه.
لقد حددت الدراسة ملامح قصيدة النثر استنادا الى اقوال بعض الشعراء, لا اعرف ما اذا كان توقف الشعراء عند شعرهم يمكن ان يؤخذ مبررا للتأمل والتحليل, وما اعرفه ان كتابا كبارا كانوا يشمئزون من ان يقوم الكاتب بدور الناقد عند غياب الدراسات النقدية عن عمله, وقد اعتبروا هذا من اسوأ الادوار التي يقوم بها الكاتب.
بعد ان خلصت الدراسة الى تحديد خصائص قصيدة النثر كما عبر عنها احد كتابها شرعت في تحليل ديوانه (مؤقتا.. تحت غيمة) لتتوصل الى ان حضور قصيدة النثر النظري فيما يقوله مبدعوها ونقادها اقوى بكثير مما هو عمليا في النصوص الابداعية.
منذ البداية تحفظت على ديوان (مؤقتا.. تحت غيمة) فالديوان يحاول ان يوجد قصيدة النثر من غير ان يقدم تجربة جمالية توقفها على قدميها.. ان هذا الديوان فيما اعتقد هو عند مستوى خفي ومشوش قصيدة تفعيلة وقد انحدرت وآلت الى العقم, وما زلت اعتقد ان الديوان قد كتب في ضوء تصور قصيدة التفعيلة.
ربما يبدو هذا الكلام غريبا, لكنني اعتقد ان قصيدة النثر يلزم ان تكتب وفق تصور ينتمي اليها هي ولا ينتمي الى اشكال شعرية غيرها, وبهذا فان ما تعورف عليه من تنكر قصيدة النثر للموسيقى الخارجية, والتخريب الحيوي للغة كما يعبر عنه احد شعرائها, ليست الا خصائص شكلية ظاهرة, بينما الاهم هو التصور الذي تكتب في ضوئه.
هنا وانا ادافع عن ان تكتب الاشكال الشعرية ومنها قصيدة النثر في ضوء تصور ما لطبيعتها وليس لشكلها وحده, سأتوقف عند ما اعتيد على تداوله بين مبدعيها ونقادها من ان قصيدة النثر تهتم باليومي والعادي والهامشي.
ان ورود قصائد في ديوان (مؤقتا.. تحت غيمة) تتحدث عن الشتم في اخر سهرة للبلوت, او عن حيوان يقدم له الطعام من غير ملعقة, او عن رجل هاجر من نفسه, وامرأة هاجرت من صالة, لا يعني الاهتمام باليومي والهامشي والعادي, والا لجاز لنا ان نوصف شعر بشار بن برد بذلك حينما تحدث عن ربابة التي تصب الخل في الزيت, وعن دجاجاتها العشر وديكها حسن الصوت. يكمن الاهتمام اليومي والهامشي في التصور الذي يتحرك خلفه, في التوجه البصري, وفي عودة الشعر الى الارض بعد ان كان فترات طويلة بعيدا عنها, والنتيجة المباشرة لهذا التصور هي ان الشاعر لم يعد متاحا له ان ينتظر الالهام, او ان ينتظر قوى غيبية تملي عليه القصيدة, او ان يجلس على مكتبه اياماً في انتظار ما يهبه الوقت, بل يكمن الاهتمام باليومي والعادي والهامشي في ان يتعلم الشاعر كيف يرى من اجل الخروج بمعنى لهذا الوجود.
لقد بينت دراسات مهمة ورائدة في ميكانيكا الادراك, كيف ان تصوراتنا التي تعارفنا عليها تقيد حدود نظرتنا الى العالم من حولنا, وان خبرتنا البصرية التي الفناها يمكن ان تشكل اذهاننا, وتقيد قدرتنا على ادراك الاشياء, وكيف اننا في حياتنا العملية نقوم باستمرار بتقليص الامكانات غير المحدودة للادراك الى واقع ادراكي معين, لاننا نتبع حرفية معرفتنا عن العالم.
اذا كان ذلك كذلك فالاهتمام باليومي والعادي والمهمش يعني ان يتخلص الشاعر من تكيفه مع الاخرين في ادراك ما يحيط به, وان يتخلص من اتفاقه معهم فيما يمكن ان يراه, ومن المفاهيم المتعارف عليها التي تقيد وعيه وادراكه.
انني اعتقد ان الاهتمام باليومي والهامشي والعادي هو تصور يكمن في الاكتشاف التدريجي لما حولنا الذي يظل قائما كما هو فأن نألف شيئا غير ان نعرفه واذا ما اخذت في الاعتبار النواحي التاريخية فان الفن ومنه الشعر كان من المقدمات التاريخية لحركة العلم الحديث, بتحويله الاهتمام الى الارض.
واذا كنت اعتقد ان اليومي والهامشي والعادي في قصيدة النثر يجب ان يكون تعبيرا عن وعي الشاعر البصري, فانه يبدو صحيحا كما يقول احد الدارسين ان الناس ولزمن طويل جدا لم يلقوا نظرة فاحصة على بيئتهم اليومية, ولم يروا فعلا ذلك العرض الدائم للحشود التي تدور في شوارع ضيقة متبادلة النكات, والايماءات والمغازلات, لم يروا جمال ضوء الشمس والظل, جمال الغدير واوراق الشجر, فأن يكون امام عين المرء شيء لا يعني بالضرورة انه يدركه, ناهيك عن ان يعرف تأثيره الوجداني.
هنا لا نملك نحن القراء الا ان نعشق عيون الشعراء التي تراقب, تلك العيون الراصدة دوما وبلا توقف ما يحيا وما يتحرك من حولها, هكذا يقول احد الكتاب عن عيون الشعراء الجاهزة للقبض على كل ما يمكن ان يثير فضولها, فبفضل نشاط اعينهم المركز والكثيف يكتسي اليومي والعادي والهامشي حيوية كبرى.

(*) ناقد وقاص سعودي


صحيفة عكاظ - العـدد : 1184 فضاءات ثقافية

التاريخ : 28/7/1425 هــ / الموافق : 13/9/2004 م

ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة