بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

قصيدة النثر - النسيقة

أيمن اللبدي

أيمن اللبدي



لا شكَّ أن للمصطلح دوماً أهميته الخاصة في مجمل الدراسات ذات الطبيعة البحثية وتزداد أهميةً في الدراسات الأدبية وتحديدا النقدية عنها في غيرها وذلك مردُّهُ إلى شفافية الحدود في العلوم الإنسانية وخضوعها إلى منطوق يحاول الوصول إلى دقَّة العلوم وخاصة التجريبية منها ومدى قطعها الذي توفِّره بناءً على قوة المخبر والتجربة المادية البحت، ومثل ذلك لا يتوفَّر للعلوم الإنسانية وإن اجتهدت في ترسُّم هذا المنهج العلمي الواضح في دراساتها التطبيقية محاولة في ذلك الاقتراب ما أمكنها من العلمية والموضوعية مستعيضة ً عن غياب أدوات المخبر بأدوات تحقُّق ٍ أقرب إلى المجسّات منها لأنابيب الفحص.
ولعل هذه المصطلحات عينها في النقد العربي أكثر إلحاحاً وحرجاً منها في النقد الأدبي الغربي نظراً لأن معظم هذه المصطلحات النقدية الحديثة إنما كانت في واقع الحال ترجمة لأصلها الغربي، وهي بهذه الصفة الوافدة تحتاج أولا إلى التيقّن من استخلاص ما يشبه الاتفاق عليها قبل الشروع في معالجة قضاياها لما سيوفّر كثيرا من التضارب والإشكاليات المتوقعة لاحقا أو حتى عدم فهم مقصود أو غير مقصود لما نحن بصدده.
أما أصل المصطلح فقد جاء من الكلمة الإنجليزية Prose Poem وهكذا فإن الترجمة العربية (قصيدة النثر) كانت في الواقع نوعا من المشاكلة التامة لما هو في أصل المصطلح الغربي والذي اختلفت الدراسات كثيرا حول مبتداه وأول ظهوره لديهم زمناً ومبتكِرا، وليس هذا في الواقع مهما لدينا هنا في معرض دراستنا القائمة بين أيدينا وإن كان سيعطي فكرة عن حداثة هذا النمط الأدبي والذي بدأ ظهوره في أدب الغرب على يد والت ويتمان على أكثر الأقوال رجحانا، ومن ثم دخوله تاليا إلينا عبر البوابة الفرنسية وتأثير سوزان برنار في ذلك ومترجميها كما تابعنا رأي محمد الصالحي في بحثنا السابق عن "مسائل حول قصيدة النثر العربية ". وقد لحظ هذه الأقدمية أمين الريحاني فهو يرى أن "ووالت ويتمان" هو مخترع هذه الطريقة وحامل لوائها، وقد انضم تحت لوائه بعد موته كثير من شعراء أوروبا العصريين المتخلقين بأخلاقه الديموقراطية المتشيعين لفلسفته الأمريكية " 1 وعلى أي حال فإنها لا تخرج عن بضع سنين حوله أو قبله وهي بذلك تكون نمطاً حديثاً وجديداً على الأدب بعامة في أدبهم وأدبنا معا.
ولما كان تفصيل هذا المصطلح يميل إلى التفسير الميكانيكي بتفكيكه إلى مسار فعله عن طريق استبداله بالقول إنه ببساطة عملية نثر الشعر وإرساله حراً طليقا من كلِّ قيد وشرط لا تحدُّه عناصر البناء السفلية من لغة وموسيقى والتي تشكّل الإيقاع الضابط لهذا الفن الصوتي الجميل في جانب منه، والاتكاء بشكل رئيس على عناصر البناء الفوقية وتحديدا الصورة الشعرية والفكرة التي تنسج بها وحولها مؤلفة ما دعاه بعض متشيعي هذا الفن "بالبديل"، وذلك عن الموسيقى الظاهرة بالموسيقى الباطنة أو الموسيقى الداخلية عوضاً عن الخارجية كما يحلو لهم الوصف، لذا كان لا بد من اخذ ذلك بالحسبان على الأقل في تناول أحد أوجه تفسير المبعث الكامن خلف هذا النمط القوليّ الجديد.
ولا نحسب أن نغادر هذه النقطة هنا قبل أن نورد في مقابلها رأي من اعترض على المصطلح أساساً معتبراً أن التقسيم الرئيس لنوعي القول المأثورين في الأدب بالفرق بين الشعر أو النظم والقصيد وبين النثر والاسترسال فيه إنما هو قائم على الفرق الرئيس بين هذين النمطين حداً وفصلاً من خلال هذه الموسيقى، وهذه نفسها التي دعاها أنصار هذه القصيدة بالخارجية وآثروا استبدالها بالداخلية على حد زعمهم وهي التي حاولوا بها إدخال شرط الشعرية على النص كي لا يغادر التصنيف أو شرط التصنيف العربي القديم وحتى يبقى النص منتميا للشعر بقوة هذا البديل الذي رأوه.
ولا شك أيضا أنا نذكر درجة اهتمام الأقدمين بشرط آخر إضافة لشرط الموسيقى حيث إنَّ بعض الأقدمين قد أخرج من الشعر نمطاً ملتزماً بالبناء الوزني مطلقا عليه صفة النظم إن خلا من الصور الشعرية، وكان ذلكَ في الوقت الذي أدخلوا فيه للنثر تخصصاً وتخصيصا ضرباً آخرَ من النثرِ إن كانت لغته تقترب من اللغة الشعرية تميزاً عن النثر الاعتيادي صفة الفن فقالوا نثرا ً فنيا ً، وعلى أي حال فإن أساس ما احتكم إليه منطق المعترضين هو الوزن والموسيقى بحيث عدّوهما أساس الفصل وعلى ذلك استحكموا في الرفض لهذا اللون لا بل أنكر هؤلاء أصلا وجود أنواع ظاهرة وباطنة من الموسيقى وعدّوا ذلك مجرد فذلكة لغوية لا أكثر ولا أقل، بل إن بعضهم انتقل إلى لسان التحدي قائلا نحن لا نحسن سماع هذه الموسيقى الداخلية فبأي أذن تسمعونها أنتم؟
وعلى هذا فإن عددا من هؤلاء الباحثين ولج من هذا الباب المنكر صلة هذا اللون بالشعر استطرادا إلى إنكار ذات المصطلح بل والمطالبة بضرورة إهمال هذا المصطلح وهذه التسمية واقترح بعضهم من باب البديل أسماء أخرى توصّف أيضا العمل الميكانيكي ذاته وعينهم على إنكار الشعرية في النص لاختفاء شرط الموسيقى أساساً ولذا تراهم مستبعدين فيما قدّموه مسمى القصيدة عن هذا النص فقط ومسمى الشاعر والشاعرة عمن يكتب هذا اللون، بينما عادوا واستخدموا ذات الكلمتين الواصفتين للشعر والنثر معا ولدينا البحث الذي قدّمه في هذا الجانب الباحث محمد توفيق الصوّاف في بحثه " النثعيرة " والذي كما هو واضح وصف ميكانيكي اشتق كما يقول عن طريق توليده صرفيا ولكن مبتدءا بنثرَ الشعر َ نتعره ُ ومن ثم اشتقاق توصيف لمن يقدم هذه النصوص بنثعير ونثعيرة 2. وهكذا فإن هناك من اعترض طريق المصطلح وطريق ما اصطلح عليه واستنفذ جهدا في توفير البديل لهذا جميعا مصراً على أن هذا النمط لا يغادر لونا من ألوان ما تفرَّع عن النثر العربي أو ما استحدث عليه باعتبار منشئه لا يعدو إلا أن يكون مستوحى من التراجم التي انتقلت من شعرياتٍ أخرى وما أثارته هذه من هاجسٍ مولِّد لهذا النمط حتى قبل أن يقف شعراؤنا على النصوص في أصلها أو على هذا النمط الحديث في سياقه الغربي تحديدا، وبالتالي فإن من رفض هذا اللون من الباحثين والنقّاد والشعراء العرب وقف موقفا في كلِّ وجوهه ومنطلقاته لم يخرج عن كونه منبعثا من مشكاة واحدة تتوجُّس في هذا اللون المخاوف حتى قبل أن يستقبل تجربته الخاصة.
ولعلَّ كثيراً من المواقف قد بنيت على هذا الاستباق والمجالُ لن يتسعَ لإيراد الكثير من هذه المواقف بيد أنا سنورد هنا هذين المختصرين من المواقف، أولهما ما جاء في بحث يوسف اليوسف حول أثر التراث على الشعر العربي المعاصر قوله " إن ما يسمى عادة بقصيدة النثر ليس شعراً ولا ينبغي أن إلا بمعزلٍ عن مسار حركة الشعر العربي المعاصر، وإلا لكان نصف النثر العربي القديم والحديث شعراً بشكلٍ أو بآخر "3 ومثل هذا الموقف لسان حال كثير من النقاد والباحثين الذين أصرّوا على تناول قصيدة النثر من واقعها السياقي اللغوي وشكله لا من داخلها.
وقد حاول قسمٌ آخر من الباحثين أن يجد لهذه القصيدة باباً شعرياً حينما ارتطم بالإمكانات الشعرية الكامنة في السليم الناضج من تجربتها بحيث وضعه في حيّز النثر لا في حيِّز الشعر كما هو رأي فائز الشرع في قوله " على أن الاقتراح الذي يحفظ للفنون حقوقها في التطوُّر لا بد أن يعترف لقصيدة النثر بالمنجز الذي حقَّقته باعتبارها تتويجاً للفعل الإبداعي النثريِّ ضمن ما يريد النثر من البلاغة لا الإبلاغ، أي أنها قصيدة ضمن حيِّز النثر وليست ضمن حيِّز الشعر لأنها لا يمكن أن تجد الأساس الذي تستند إليه -لإدراك منجزها بالاحتكام إليه- في الشعر العربي " 4 وهو كما نرى رأي من حاولَ أن يحلَّ معضلةَ المحمول الشعري الواضح في النص ولكنه رأى أنَّ الحيِّز لا يصلحُ شعراً لافتقارِ الأساسِ الذي ينهضُ عليه وفي ذهنه طبعا الاشتراط الموسيقي البنائي.
وأما من تابع هذه التجربة تاليا بأبحاث تطبيقية أو تفصيلية فقد انطلق مكمِّلا موقفه المبدئي وفي ذات الاتجاه وانتقى لذلك عددا من النصوص التي تؤيِّد وجهة النظر هذه وضمن الإطار العام الذي حدَّدهُ أساسا لبحثه أو مقاله، مما أدى إلى قطيعة تامة انقسم على إثرها المشهد النقدي بين فريقين مذكّرا بالحال التي انقسم عليها ذات المشهد بين من تشيَّع لقصيدة السطر الشعري وبين من رفضها ممسكا بجدار العمود رافضاً غيره بالجملة.
وحتى وقت قريب استمرَّ بعضهم على ذات الموقف بإصرار بينما انتقل جزء آخر ليقبل بالعمود والسطر الشعري على مضض ٍ أو على اقتناع مخرِّجين له القبول على أساسِ أنه ما هو إلا إعادة توزيع للأبيات وتفعيلاتها في أسطر بدل المصراعين بينما يرفض اللون الحديث رفضاً باتاً دونَ هوادة على أساس غياب هذه التفعيلات أو غياب تراتبيتها على نسق الخليل في النصوص المقدّمة بين يديه من هذا اللون وقبل النظر في أي ِّ موضعٍ آخر فيها.
وإذن فإن هناك أمامنا اتجاهين متضادين في النظر إلى هذا اللون ولكل منهما أسبابهما الخاصة التي أوردوا منها الكثير ووقفنا على الرئيس منها فكيف ترى الشاعرية نفسها إزاء هذين الموقفين ؟ يحسنُ أولاً أن نرفض جملة ميكانيكية الترتيب في المصطلح وفي العملية المولِّدةِ لهذا النص، وذلك لأن من حرص على خلط الشعر بالنثر سواء من هذا الفريق أو ذاك كان في ذهنه دوما أن السمات لهذا اللون الجديد هي سمات قبيلتين منفصلتين تجتمعان شعرا ونثرا فيه، وإنما أراد المتشيعون للون الجديد أن يركِّزوا على جانب الشعرية فيه فقالوا هو نثر الشعر وهي قصيدة النثر تاركين العملية برمتها مرتكزة على أساس الشعر.
بينما وقف المعترضون لينفوا أساس الشعرية وليبدلوه بالنثرية أساسا وإنما صفة الشعرية طارئة عليه فهو نثر مشعور كقول بعضهم في ذلك وهكذا فلا يصح تسمية النص بالقصيدة عندهم ولا يحسن إسناد صفة شاعر لكاتبه ومقدمه على هذا الأساس وعليه فإن النص مثلا هو "نثعيرة " كما ذهب إليها الباحث الصواف على أساس أنه النثر المحاول فيه اكتساب الشعرية ورغم أنا لو دقَّقنا النظر في تركيبة التسمية لوجدناها من جديد توافق من قال بنثر الشعر ميكانيكيا فهي قد جاءت من نثر الشعر وعلى هذه الحال فهي توافق أن العملية الطارئة هي النثر على الشعر وربما هي عكس ما أراده الباحث إذ ربما كان سيغدو موفقا أكثر لما رمى إليه لو استخدم بدلا من ذلك "الشعثيرة" بدلا من "النثعيرة " بإسناد الشعر إلى النثر أي شعرَ النثر وليس العكس حتى توافق ما أراده في مجمل بحثه ويمكنه على أساس التصريف وقاعدته التي ذهب إليها استخدام الفعل "شعثرَ " ومشتقاته أيضا على ذات الطريقة التي انتهجها في بحثه، ولعل ّض الباحث أورد في ذات البحثِ جواباً لتساؤل ٍ متوقَّع عن شيءٍ مثل هذا ولمنه استبدل السؤال بالاستناد إلى ما اشتقه هو آنفاً ونورد له في ذلك قوله "قد يسأل سائل: لم قلت (نثعيرة) ولم تقل (نشعيرة)؟ والجواب: لأنني، في قناعتي، أرى أن المسماة (قصيدة نثر) هي أقرب إلى النثر منها إلى الشعر ". وبالعودة إلى ما نراه من رفض التوصيف الميكانيكي جملة وتفصيلا فإن الواقع في العملية الشعرية عند كتابة النص هذا ينفي كلا الترتيبين المفترضين معا، فمن قال بنثر الشعر افترض أن النص الشعري قائم ومن ثم أدخلت عليه عملية تالية هي عملية نثره وفك أطواق شعريته وتركه مسترسلا سابحا على صفة النثر فيما لا زال محتفظا بهذه الخواص الشعرية وكأنها عملية اكتمال التفاعل الكيميائي في شقه الثاني المنتج بعد مرحلة وسيطة هي البرزخ بين الانتهاء من العملية الأولى وهي الشعرية والولوج في مسار العملية الثانية وهي النثرية، ومثل ذلك يقتضي أن الحالة أو اللحظة الشعرية في التدفق قد تم توضيبها بحيث توظَّف على أساس المزاوجة أو المضاعفة وهذا غير صحيح بالمطلق فهي وحيدة ولا يمكن استنساخها أو مضاعفتها أو مزاوجتها في ذات المسار الذي تأخذه العملية الشعرية أو لحظة النص.
وإن صدق ذلك على رفض هذا الترتيب فهو أيضا يصدق بذات الوقت على من اتجه إلى عكس هذا الترتيب الميكانيكي ليقول بشعرنة النثر أو إضفاء الشعرية على النثر لأن طبيعة النثر لا تستوجب الدفقة الشعرية على الإطلاق فهي طبيعة عقلية وذهنية صرف لا تدخلها الدفقات الشعرية على الإطلاق وإن ظهرت في النص سمات الخيال أو الصورة أو اللغة الفنية فهي ضمن مسار آخر منفصل تماما لا تتواجد فيه أي ملامح العملية الشعرية التي تستوجب في مسارها استقبال الشحنات وما يترتب عليه من عمل اللاشعور والوجدان المنفعل بها في ذات الشاعر.
إذن فالشاعرية لا توافق إطلاقا على أي من الترتيبين أو المسارين المفترضين في الوصف الذي ذهب كل من هذين الطرفين إليه في محاولتهما معالجة إشكالية المصطلح والتعريف أيضا وما ترتَّب على ذلك تاليا من إشعال المعارك النقدية والشعرية بينهما، وهي تقف على أبواب وصف آخر مختلف تماما لهذه العملية لا يأخذ برأي مسبق بل يراه نتاجا لما وصفته الشاعرية في جزئها الأول من تقنيات وآليات تحكم العملية الشعرية ذاتها ومن المفيد أن نذكَّر أن الشاعرية شأن شعري محض لا تدخل حيِّز النثر وعملياته.
ويبرز السؤال المحتوم الآن وهو يقول: ما هي آلية ولادة هذا النص تحديدا حسب فهم الشاعرية وافتراضاتها؟ وللإجابة عن هذا السؤال يلزمنا أن نجيب على سؤال محدّد من ينتج هذا اللون من النصوص من الشعراء وفي أي مراحل الشاعرية هم ينتجون ذلك غالباً؟
إن الإجابة عن هذا السؤال ستفتح الآفاق لإجابة السؤال الرئيس من واقع الدليل والتجربة ذاتها، وقد لاحظت الشاعرية أن منتجي هذا اللون في الشعرية العربية تحديدا هم واحد من ثلاثة أصناف بحسب مراحل الشاعرية ذاتها على هذا الترتيب: 1-شعراء مرحلة الشاعرية العامة
أما شعراء أو مشروع شعراء المرحلة الشاعرية العامة فهم في واقع الحال ممن تنطبق عليهم صفة الاتباع لا الابتداع وهم معظم من ينتج حاليا هذه النصوص ويراكمها، وهؤلاء كما ترى الشاعرية في قوانينها هم بحق مشروع شعراء نظرا لامتلاكهم الحس الشعري والمستقبِل الضامر والذي لم يتطوَّر بعد لاستقبال الدفقات الشعرية ولا لتمرير بقية عملية الشعرية فوقفوا على أعتاب الشعر بحسٍ محاول وهم طبعا يمتلكون لغةً تتيح لهم أن يكتبوا بها النثر المعتاد وشيئاً من النثرِ المقلِّد ِ لقصيدة السطر ِ الشعريِّ وفي لحظة ما يرون أنفسهم بأدوات مفتوحة فينغمسون في إنتاج نصوص يعلوها الكثير من التكلُّف وإلصاق ما أمكنهم من الرموز ونسج مجموعة من التهويمات حول نثرهم هذا ليقدموه على أساس أنه قصيدة نثر وفي واقع الحال فإنهم إنما يخرّبون النثر ذاته ولا ينتجون شعرا أساسا لأنهم عاجزين عن إنتاج الشعر ابتداءً فلا هم داخلين للعملية الشعرية الوجدانية بكلِّ دقائق وتفصيلات مسارها ولا هم متمركزين في داخل مسار عملية النثر العقلية وبذلك فالنتاج بعيد عن كليهما معا فهي قطع نثرية مخرَّبة تماما مثل القطع التي تتدرب عليها فئة النجارين والحدادين وما شابههم من الصنّاع و هم يحاولون هذا ويحاولون ذاك فلا يخرجون فيه إلا بما يتقاطع من هنا وهناك، وهذا النتاج لا يحمل من صفات الأدب ولا من مظاهره شيئا ذا بال، لذا ترى المتلقي وقد أحجم عن الاستعداد أساساً للشروع في عملية التلقي نظراً لتوقعه المولّد بأن هذه النصوص هي مجرد محاولات لا أكثر ولا أقل ومعظم ما تناوله المعترضون على هذا اللونِ الجديد إنما هي نصوص من هذه الفئة فأعملوا على تشريحها والتوغُّل في تصنيف خصائص مفترضة ٍ لها بينما هي أصلا ليست نتاجاً مؤهَّلا ً.
أما النمط الثاني ممن ينتج هذا اللون فهم شعراءُ قد تخطّوا مرحلة الشاعرية اللغوية والتي نتذكّر من سماتها في جانب السيطرة الشعرية أنها تتسم بالاستحثاث وهم يدخلون مرحلة الشاعرية التصويرية والتي تتميز في جانب العملية التقنية من حيث أنواع السيطرة الشعرية بالاختزان وهنا في هذه اللحظة الوسيطة بين إنهاء مرحلة الشاعرية اللغوية ودخول مرحلة الشاعرية التصويرية يحدث تبدُّل عاصف وقوي في ميكانيزم أو الآلية الحيّة لمسار العملية الشعرية فهم اليوم يبدأون عملية اختزان الدفقات الشعرية ونقلها في دواخل وجدانهم بعد أن كانوا مجتهدين ومضنيين في استحثاثها كلما أرادوا كتابة القصيدة وإخراجها.
ومن ناحية أخرى فإن هذا التغيّر والتطور في المميزات التقنية عند تناول السيطرة الشعرية يصاحبها تغيُّر مماثل في المميزات النصية ذاتها بحيث كما اتضح لنا أن عناصر البناء العلوية وهي الصور الشعرية تحديدا تأخذ في التشكُّل بين أيديهم وبصورة ملفتة لنظرهم أكثر مما كانت عليه إبان المرحلة السابقة وهذا المتغيِّر الجديد هو متغيُّر فاتن حقا ومشبعٌ لكثير من اختلاجات النفس البشرية وهو في ذات الوقت مغرٍ بالمطاردة خلفه دون هوادة نظرا لسحره وفتنته الأخاذة.
وفي هذه اللحظات يقف هؤلاء الشعراء أمام مفصل رئيس في تطوُّر شاعريتهم ويترتب على هذا الاختيار تالياً نوعية النص الذي سينتجون، وفي هذا المشهد هناك نوعان من الشعراء لا غير في قرارهم النهائي بهذا الشأن، نوع منهم يكمل طريقه دون أن تفتنه هذه العناصر ودون أن ترهبه أيضا تبعات ضبط مسارها لتواكب مسار شاعريته فينتقلون تالياً بعد هذه المرحلة بنوع من الثقة إلى مرحلة الشاعرية المنهجية ويقطعون مرحلة شاعريتهم التصويرية ِ بأمان ٍ وثقة س ونجاح وهم أقدر على الاختيار والخيار تالياً لو عرضت عليهم ذاتُ المغريات ِ من جديد ٍ وبعضهم يستجيبُ لها فيصبحُ أحد هواةِ هذا اللونِ والمحاولين فيه، ونوع آخر تستهويه هذه التجربة مباشرةً وبغتةً فينطلق خلفها مطلقا لذاته العنان تماما في بحرها الهائج وتكون الخطورة قطعا في أعلى درجاتها وقلة من هؤلاء يستطيعون تالياً إكمال خطاهم في المسار التالي أو يصلون حتى إلى بوابة المسار التالي لهذه المرحلة أي للمرحلة المنهجية، واغلبهم يسقطون في فخ هذه المحاولة وقد يغرقون تماما أو يبقون عالقين بخشب خلاص قد يلتقطهم أو يلتقطونه في ملتحم الأمواج.
هذا النوع من الشعراء الذي ذهب باتجاه هذه التجربة الجديدة ليس كلُّه على ذات الدافع، صحيح أن بعضهم قد ذهب رهبةً من تبعات مسار العملية الطبيعية المعلومة ورغبة في التخفُّفِ من وطأتها، وهناك نفر قرَّر ذلك اختياراً وطواعية بدخول هذه التجربة لعله قبول التحدي الكبير مثلا ًوهم على أمل أو على شبه ثقة في الاجتياز، بينما هناك نفر من الشعراء حرّك اختياره دافع من الانتهازية في سرعة الوصول وكأنه طريق مختصر وهم يتوهمون كثيرا في ذلك فهم أشبه بمن تعلَّم قيادة الدراجة وظن أن بمقدوره قيادة الطائرة مثلا بالقياس دون قيادة مركبة وسطى بينهما وهؤلاء كثيرا ما تهوي بهم خياراتهم تلك.
أما النمط الثالث من الشعراء فهم شعراء وصلوا إلى مرحلة الشاعرية المنهجية وعندها انفتحت لهم مسالك هذا اللون الجديد باقتدار فسمات هذه المرحلة التقنية من حيث السيطرة الشعرية هي ما نعلم عنها من الامتلاك وهي بالتالي قابلة لأن تكون طيَّعة بين يدي وجدانهم فيما يحاولون ويجرِّبون، وعليه فإن بمقدورهم إتقان استخدام المركَّب النشط المطلوب لإنتاج النص المبهر سواء أكان شعرا في لونه العمود أم في لونه السطري وكذلك الحال فهم قادرين أكثر من غيرهم على محاولة النص الجديد أو اللون الجديد الذي هو موضع بحثنا هنا وطبعا هم لا يتساوون في هذا اللون الجديد مثلما هم لا يتساوون في نصوصهم الأخرى إنما من الناحية الافتراضية البحت هم من يجب أساسا أن ينظر لنصوصهم وتحاكم التجربة على أساس منجزها لديهم لا لدى غيرهم.
ولعلَّنا نتذكر أن مرحلة الشاعرية النقدية هي التي تنتج هذه التجارب الجديدة أساساً وإنما أحد هؤلاء الشعراء ممن وصل إلى المرحلية النقدية أمكنه تتويج مسيرته الشاعرية بافتتاح هذا المبتكر ومن تبع خطاه من شعراء المرحلة المنهجية إنما هم في واقع الحال متبعين محاولين ضمن المنتج الجديد أصلا.
ولا يغيب عن بالنا أن الشاعرية هي الشاعرية سواء أكانت تخضع الشعرية العربية لفهمها أو الشعريات الأخرى وهكذا فإن الشاعرية ترى أن منتج هذا اللون في أدب الغرب طالما أنه جاء فريدا في تطوِّر الشعر عندهم لو انتهى القول إلى أنه كذلك لكان وجب اعتباره أي مبتكر هذا اللون وهو ويتمان هو أحد شعراء المرحلة النقدية، أما ناقل هذا اللونِ إلى أدب العربية وشعرها فهو الأقربُ والأرجحُ إلى أن يكون الشاعر السوري أدونيس رغم اعتراض أنسي الحاج في كتابه "لن " أو محاولة غيره التنظير لسوى ذلك فإن الأقرب هو أدونيس وعليه ننتهي بحيث ُ يمكن اعتباره مفتتح هذا التطبيق العربي وهو يعتبر بهذا أحد شعراء المرحلة النقدية في ادب العرب وتطوُّر شعريتهم.
ومثلما اعتبرنا مثلا في شعرنا العربي نازك الملائكة شاعرة من شعراء المرحلة النقدية لابتداعها الشعر السطري على الأرجح في تطبيقه العربي وقد كانت أوَّل من نظَّرت له في شكله الفني الذي طرح واعتمدته ودعت إليه رغم أن كثيرا من المتابعين له ربما عدَّ قصائد أخرى قبل قصيدتها الكوليرا عام1947 ولكنا أخذنا بأحقيتها على ظهور بعض النصوص قبلها نظراً لاقتناعنا بما أوردته في كتابها قضايا معاصرة للدفاع عن أحقيتها بذلك وصواب اعتبارها رائدة هذا اللون في الشعر العربي الحديث.
وأيضاً يصدق الأمر مرةً أخرى حيث اعتبرنا شوقي هو أحد شعراء المرحلة النقدية لابتداعه في الشعر العربي الشعر المسرحي تطويراً على شعر العمود وهكذا لما سيتبع لاحقا من تطوّرات على مسيرة الشعريات ينجزها شعراء قادمون، بيد أن الجزم بأهلية الشاعر ليحمل صفة شاعر المرحلة النقدية تأتي من الابتداع ذاته وليس من الوقوف على نمط ما في شعرية أخرى ونقله إلى الشعرية العربية ولذا فإنما يصحُّ أن يطلق ذلك على الناقلين إلى شعرية أخرى كما هو حال ثلاثتهم هنا تجاوزاً وعلى من بدأ هذا اللون في الشعر عامة أصلاً وحقاً تاماً.
بعد أن وقفنا على أنواع منتجي هذا النمط من القول في الشعر العربي بحسب مراحل الشاعرية يمكن لنا أن نتلمس خطى الإجابة عن السؤال الرئيس الذي قدّمناه وهو ما هي آلية ولادة هذا النص بحسب الشاعرية وهل ستعدُّه فعلا تطوُّرا في شعريتها أم هو خارج هذا كلِّه وبالتالي هو ليس أحد أنماط الشعر ولا يمكن القبول به على هذا الأساس لا على أساس ما ذهب أي من الفريقين إليه في القبول أو الرفض.
إن امتلاك الدفقة الشعرية يمهِّد لعملية تقطيعها على دفعات مثلما يسمح بتجميع عدد من الدفقات التي يمكن لها أن تنتج المسرحية الشعرية، وإذا كانت المسرحية الشعرية هي تجميع لهذه الدفقات وإدامة حثٍّ وتحفيز تنتهي بنهاية النص المسرحي الشعري فإن عملية تقطيع هذه الدفقة القوية إلى أجزاء تسمح بإنتاج نصٍ شعري واحد على نسق خاص تماماً يدخل فيه أثر اللاشعور والوجدان الشعري المستقبل المنتج مع جزء من فراغ أثر الإدراك الميكانيكي العقلي بحيث تبدو النتاج وكأنها تسير متعقِّبة خطى على الأرض لسائر قبلها مثل اقتفاء الأثر فوق الرمال تماما فالسائر خلف الخطى يسير في المرحلة العامة أي من الخارج بلاشعور خلف ما هو أمامه عيانا بيانا وهو بهذا يخلط شعوره مع لا شعوره في معظم أجزاء سيره حتى إذا انتهى الأثر أمامه انتبه وتنبه واستفاق على حقيقة ما كان يفعل، وبالتالي فإن النص الناتج هو نص وقع في إطار الشعرية العام بما توافقه آلية وميكانيزم دور الدفقات الشعرية ولكنه سار في مسار نثري على خطى ما كان مرتسما أمام ناظريه من حيث الاسترسال، فهو لم يحفل تماما باللغة لذاتها لأنه يترسمها افتراضاً أو يترسَّم شكلها المرقوم أثره أمامه بينما هو في عالم الأخيلة والصور والتخيُّل لما سوف يلاقي ويجد أو يتوقع الحصول عليه في رحلته تلك.
إذن فأساس قبول هذا النمط هو في أسس صنعه الشعري وليس في طريقة خروجه الشكلي وهنا نخرج بنتيجة واضحة أن اللون الجديد هو نتاج مرحلة تجريبية معقَّدة جرت على يد شاعر من شعراء المرحلة النقدية أمكنه ببراعة اجتياز هوّة بين قمتين متقابلتين هما قمة الشعر القصوى وقمة النثر القصوى بينما هما في اتجاهين متضادين وكانت مهمته أن يجسّرَ هذه الهوة منتجا لونا جديدا استخدم فيه كلَّ إمكاناته وطاقاته وخبراته الشعرية ليخرج بلون جديد يقوم مرتكزا على عناصر البناء الفوقي ويترك عناصر البناء السفلي من لغة وموسيقى في الفراغ تشكّل معالم هذا المدرج أو الجسر بين هاتين القمتين، ومن الطبيعي أن قوة هذا البناء المميز وفاعلية مدرجه ومساره للاجتياز تعتمد أساسا على متانة هذه الصور التي تشكِّل الرأس الملتصق بالأرض في البناء أو عنصر الاتكاء والثبات والقوة والصلابة بينما تكون اللغة والموسيقى هي المدرج ذاته المستخدم والمعتمد على قوة رأس الهرم المقلوب. وإذا كان هذا هو التوصيف الهندسي للناتج فإن الوصف الداخلي لبنية هذه الصور أنها صور مولِّدة لإشعاعات منطلقة باستفاضة وحدود جوانب هذا الهرم وحتى قاعدته العلوية بين هاتين القمتين بمعنى أنها تشيع عنصر التلاقي والتفاعل وتوليدَ ذات الأثر بل وربما أكبر من الأثر الذي تولِّده الأنماط الموسيقية التقليدية والناشئة عن الوزن المعتاد في القصيدة العمود أو قصيدة السطر الشعري وهي بذلك تفتح تفاعلا رحبا لا تحده تراتبية ولا تعاقبية الأثر الموسيقي التقليدي فهو دوما غير المتوقع ولكن المشبع والمتيح تماما السباحة بشتى أوضاعها في نسق خاص من الجمال الأخاذ الذي يشكل قصيدة منفتحة على المحيط تماما ولكن قوية في ذاتها ومتينة في أثرها.
حسنا يمكن الآن الذهاب إلى مصطلح ما يوفِّرُ لها شرط الشعرية وتستحق به مسمى القصيدة فهي قصيدة فعلا من داخل الشاعرية وداخل العملية التخليقية الخاصة بها معيدين التنبيه أن ما نتحدث عنه هو ذلك اللون الذي نجح في الوصول إلى النتاج الذي نتحدث عنه وليس مجرد أي نص أنتج وادعي أنه تابع لهذا اللون لمجرد الإدعاء أيا كان منتجه وأيا كان مدعيه، وإن كان في لغة الشعرية الأخرى قد اتفق عليه بما قدمنا وهو قصيدة النثر فنرى في ذلك كما أسلفنا نوعا من القصور ربما لأن اللغة ذاتها أي الإنجليزية وهي لغة لصق ولا تتيح توليدا باشتقاق كما تتيحه لغتنا العربية التي هي لغة نحت منفتحة تماما عكس ما قد يظنه البعض، لذا نرى أن نعود إلى طبيعة تخليق هذه القصيدة لاشتقاق اسمها بدلا من الوقوف عند النمط الخارج بالتسمية أو الاتكاء على شكل الكتابة وعناصر البناء الخارجي كما تم توصيف العمود مثلا أو قصيدة السطر الشعري وهذه المرة سنعتمد في اشتقاق المسمى على أسس وميكانيزم بناء القصيدة وهي التي مرّض معنا أنها تقوم على نسق خاص تماما هو تقطيع الدفقات الشعرية والتحكم بها ونسج القصيدة بناء على ذلك وهذا النسق وهذا التنسيق هو ما نراه أولى أن يعتد به في إطلاق التسمية عليها تبعا لمشاكلة حقيقة وصف انتاجها ومنتجها فالشاعر ينسق هذه القطعة المخصوصة وينسّق دخول هذه الدفقات في مسار إنتاجها ولذا فإن الفعل (نسَقَ ) أكثر ملائمة لوصف واقع الحال ومنه يمكن للصرف العربي أن يشتق التسمية (النسيقة) وهذه تغني عن إلصاق لفظة القصيدة بها وكأنها محتاجة لأن يتم إعلام السامع بأنها من الشعر وليس من غيره وإن أصرَّ البعض على استخدام كلمة القصيدة لا نرى بأساً في ذلك على الإطلاق.
ربما أمكن توليد مصطلح أجنبي مثلا على أساس الفعل المقابل لها ولكنا لا نرى أنفسنا محتاجين أو مضطرين لهذا طالما أن ما نحاول هنا أساسا هو تلمُّس التطبيق العربي وليس الغربي، وقبل مغادرة هذه النقطة يلفت إصرار المتناولين للأدب جملة وولعهم باستخدام لفظة شعر قبل نوع القصيدة مثل قولهم شعر العمود أو شعر السطر الشعري "التفعيلة/ الحر" وشعر النثر مثلا أو شعر النسيقة كما اقترحناه مصطلحا، بينما هم لا يفعلون ذلك في وصف أنماط النثر فلم نجد من يستخدم مثلا نثر القصة ونثر القصة القصيرة ونثر الرواية وفي هذا مبعث عجب فعلا ربما يعود ذلك لأسباب متعددة ولكن لا يوجد منها ما هو مستوجب لهذا النمط من الاستخدام. ربَّما تثير خصوصية الشعرية والنظرة الموروثة لها بالتقديم على غيرها من الفنون القولية أحد أهم الدوافع للإصرار على استخدام عملية توكيد التوصيف هذه، ولكن ذلك في حقيقته لا يقيم دليلا على شعرية نص ما ولا على شعرية لون ما إلا بقدر ما هو قائم فعلا في حقيقته وإن اجتهد في لصق وصف الشعرية به على هذا النحو أو غيره.
نعلم أن البعض سيعود ليصرَّ على نمط الحكم من خلال ما توفَّر سابقا على نظرية الشاعرية من شروط الفصل بين ألوان القول اعتمادا على جزئية الموسيقى وحدها بالاتكاء على تواجد النوع المعلوم من الموسيقى التركيبية ولكنَّ مفصل القول هنا أن الاتكاء في موضوعة الموسيقى تحديدا هو في الأثر الناتج عنها وليس في ذاتها كغاية لأنَّ الشاعريةَ ترى التعاملَ بوحداتها المنفعلة فيما تنتج من وحدات فعل ٍ وتأثير.
وعليه فإن قدرة النسيقة الصحيحة والتامة على توليد أثر مضاعف حتى عن الأثر الذي تولِّده أنماط أخرى كالعمود أو السطر الشعري إنما هو محقق للمقصد من الموسيقى والغاية منها في النمط الشعري من فنون القول وهي بذلك تخرج عن إطار الوقوف على الحواف إلى سعة الانطلاق الحر والفضاء البعيد ولكن دوما بشرط نجاح هذا التنسيق وليس مجرد التوهُّم بأن كل محاولة نسيقة هي قصيدة.
تبقى ملاحظة هامة على هذا الصعيد ولها علاقة مباشرة بالنسيقة في قبول واقع تجربتها العربية من باب الموسيقى هذا، فالخصوصية التي تتيحها اللغات الأخرى في شعريتها للموسيقى تختلف عن تلك التي تتيحها العربية، كما أن قدرة الانتقال بالصورة الشعرية لتوليد هذا الأثر البديل موسيقيا أيضا هو اشتراط تفصيلي ورئيس لقبول شعرية النسيقة في تلك اللغة وكما هو معلوم فإن الشاعرية هي الشاعرية لجميع الشعريات فقوانينها غير محتكمة إلى شروط التخصيص في اللغة وما سيحقِّق شرطها لاعتبار هذه القطعة نسيقة تامة مقبولة في لغة ما قد لا يصدق على التطبيق العربيِّ إطلاقاً وإنما تقبل الشاعرية الإمكانية نفسها من عدمها وتقبلُ الوجود لهذا التطور الشعري وتفسِّرُ ذلك وتمثِّلُ له ُعلى أساس ما تقوله قاعدة التعامل مع الدفقات الشعرية ولكنها لا تقطعُ بشعرية النص العربي على أنه نسيقة تامة أو محاولة نسيقة وتحيل ذلكَ إلى قوانين الشعرية العربية وقدرة هذه التطبيقات العربية على تحقيق شروط الشعرية العربية فإن لم يكن بالظاهرِ للعيانِ من الوزنِ فالبديل الذي تقبلهُ الشاعريةُ من أثر ٍ موسيقيٍ متولَّدٍ عن تمام التجربة ِ كما قبلته في الشعريات الأخرى.
إنَّ وصول النسيقة ِ إلينا تطوراً أو شكلاً محتملاً من أشكال الشعرِ يبقي لدينا محورين قائمين أولهما أن هذا لا يعني نهاية التطوِّر في عالم الشعر بل يؤكِّدُ أن الشعرَ هو عالم ٌ حيٌّ متطور وقابلٌ للتناغم مع التطوِّر البشري والكوني، والثاني أن الأنماط الجديدة لا تعني إلغاء الأنماط القديمة من جهة ولا تفيدُ أكثرَ من وجودها في جانب المفاضلةِ أو جانب الترتيب ِ العموديِّ قيمة ً أو رقياً.
وعلى ذلك فإن النظر إلى ما هو متوفِّر من نصوص يزعم أنها نسيقة يؤكد تطبيقيا أن معظمها ليس كذلك بل إنما هو محاولات ولم تخرج عن إطار المحاولات والتجريب، ولكن هناك عدد من هذه النصوص تتيح الوقوف على نسيقة تامة الخلقة وبتجربة جميلة لقصيدة قصد شاعرها أن تكون على هذا النسق الأخاذ والذي يثبت له حجر أساس في هذا اللون إلا أن عددها وعددهم ليس كثيرا كما قد يظن البعض. وفي الإجابة على السؤال المتوقع حول أعمال أدونيس وأنسي الحاج أو سركون أو غيرهم ممن كان جيلها الأول عربياً، نورد أن معظم قصائد هؤلاء جملة إنما كانت تجارب حول النسيقة ولم يتولَّد عنها إلا القليل بينما نجد في جانب آخر أن أسماء أو أجيال أخرى أنتجت نسائق وصلت إلى مرحلة النضج ولم تكن خداجا مثلما أنتج عدد من الأسماء المتداولة في عالم هذا اللون الجديد حال بعض قصائد شعراء مثل عدنان الصائغ ومحمد بنيس وقاسم حداد وسيف الرّحبي وحسن البرغوثي وفاطمة ناعوت وغيرهم من الشعراء ممن وقفنا على نسائق لهم تحقِّق ذلك.
وأغلب هؤلاء الشعراء كما لاحظنا أنهم لا ينتمون إلى الجيل الذي نظَّر بداية لهذا اللون مما يؤشِّر على خروج هذه القصيدة عن نمط الريادة المزعوم أو التزعُّم فهي ليست مضمونة دائما إلا بقدر توفُّر شروط إنجازها الصحيحة والخاضعة أساساً للقوانين التي تراها الشاعرية أساساً وتترجمها الشعرية بتناولها عبر ترجمة ذلكَ إلى تفصيليات وترجمة لهذه الأطر المجملة.
ولعلَّ هذه تمثل أحد أهم الفروق بين أنماط الشعر الثلاثة وريادة أصحابها وخاصة مبتدعيها وأجيالها الأولى، فقد ظلَّت رغم التطوُّر الكبير الذي طرأ على السطر الشعر وكذلك المسرحية الشعرية في العمود كلُّ نتاج الروّاد دوما مميزة بالمطلق مكمِّلة ً لشروط ما نظَّروا له ومحقِّقة ً لهم استمرار الريادة وفي ذات الوقت معطيةً الجيل التالي أرضاً صلبةً واضحةً للبناء عليها وتطويرها وهو ما لم يحدث في قصيدة النسيقة نظراً لعدم نضوج كلِّ منتوج روَّاد هذا اللون وعدم اكتمال تجربتهم بل وتناقضها أحياناً.
من جانبٍ آخر يمكن التأكيد أيضاً أن الفرق بين هؤلاء في منتوجهم متأثر قطعا بطبيعة مرحلة الشاعرية التي هم فيها فأغلب النسائق التي أمكن وصولها سليمة هي لشعراء في مرحلتهم المنهجية بينما على الأغلب كانت نسائق من هم في مرحلة أدنى أقل حظاً في النجاة وبقيت عند المحاولات لا أكثر ولا أقل.
إنَّ الدراسةَ التالية للنسائق والحكم عليها تخضع للشعرية وقوانينها وهي فقط التي سوف يكون لها الحكم الفصل في ما يمكن اعتباره أدباً أو شعراً تاماً ناجزاً وفيما يمكن اعتباره مجرَّد تجريب ومحاولات، وهذه النقدية يجب أن تخضعَ في اعتبارها عدداً من العوامل المؤسسة لنقد منهجي سليم غير قائم على أساس مواقف مسبقة من النص على قاعدة نفي شعريته لمجرد نوعه الجديد ولا على أساس التهليل له لذات السبب أيضا.
ومن المؤكَّد أن قدرة هذه الدراسات على تحقيق ذلك ستكون مرهونة بالقدر الذي يجب أن يصرف له النقّاد جهداً خاصاً سيما وأن تجربة النسيقة في تطبيقها العربي ما زالت حديثة العهد رغم مرور عدة عقود على البدء فيها، بيد أن المؤسف مما هو ملاحظ أن هذه التجربة لم تلق بعد العناء الذي تستحق لديهم وتركت دون رعاية سليمة جادة، كما يجب ملاحظة تطابق أدوات هذه الدراسات مع ما فصَّلته الشاعرية في هذا الاشتراط الموسيقي البديل وقدرته على الفصل بين تبعية النص إلى المحاولة أو إلى التجريب أو وصوله إلى خط النهاية فائزاً بالشروط.
بقي أن نشير إلى وجود رأي منفصل عن كل ذلك لمسناه في استخلاص آخرين للقول بأن النسيقة إنما هي هجين مفتوح على الأنواع الأخرى ولا تؤيد الشاعرية هذا الرأي بل تعتبر النسيقة تطوراً شعريا محضا ولوناً من ألوان الشعر الحديث كما هو حال السطر الشعري ولكن مع ملاحظة أن أدوات السطر الشعري التقليدية تكفل ضمان نجاح قصيدة السطر الشعري دون عناء كبير وتجعل معظم هذه النصوص أو الأعم الأغلب وقد فازت بشهادتها النهائية دون شك.
بينما نجد النسيقة في تطبيقها العربيِّ تحديداً محتاجة لأدوات خاصة وجهد كبير حتى تصبح جديرة باستحقاق الانتماء إلى الشعر وعرشه وقبول عضويتها فيه بينما أغلبها يقع يتيما خارج إطار اللونين مما يمكن لأصحاب هذا الرأي أن يصفوا بحق هذا النتاج الساقط بالهجين وليس النسيقة التامة.
وهكذا نصلُ إلى ختام الرأي بأن النسيقة َ أو قصيدة النسق هي تطوُّر شعري مقبول بحسب قوانين الشاعرية كما أسلفنا وأما مسألة اعتبارها بالنقيض لما سبقها من أنواع فهو ما لا نراه ولا نؤيده بل نرى تعايشَ كلَّ هذه الأصناف معا ونترك للمتلقي العربيِّ أن يضع َ قبوله وتفاعلهُ هو مع ما يختارُ منها لا أن تفرضَ أشكالٌ وأنماطٌ محدّدة فرضاً على ذائقته.
ونرى أيضاً أن النصحَ الذي ندَّخره لشعراء العربية الأعزاء أن لا ينهمكوا في تجربة هذا اللون الحديث قبل أن تتوفَّر لهم الاشتراطات الكافية والاستعدادات التامة في أدواتهم حتى لا تصبح هذه القصيدة مقصلة ومذبحاً ينهي تطوَّر شاعريتهم قبل الأوان نظراً لشدة تعقيد هذه التجربة وعدم نضوج ملامحها بعد.

المراجع:

1- أمين الريحاني - عن الحداثة الأولى لمحمد جمال باروت الطبعة الأولى - ص 142

2- محمد توفيق الصواف - مجلة الآداب اللبنانية، العدد 5/6 أيار - حزيران، 2002.

3- يوسف اليوسف- أثر التراث على الشعر العربي المعاصر - بحث 4-فائز الشرع- القصيدة بين النثر والشعر.


- الاثنين 6 تشرين الأول 2003


ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة