بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

البيان الأخير - ضد موت قصيدة النثر العربية

حكمت الحاج


ليس الأمر كما يحلو للبعض أن يرونه، أمر وزن وعروض وخروج عليهما، بل هو موضوع تحديد زاوية (الرؤية إلى العالم) وكيفية التعامل بصفة شعرية مع (الحرية) و (الوعي).

إن معالجة موضوع (تسمية) قصيدة النثر، ومعالجة وظيفتها التاريخية، وحضورها في الفضاء الثقافي العربي، تشكل بحد ذاتها مسألة حاسمة في أية ممارسة تأويلية. إلا أننا يجب أن ننظر إليها، وعبر تاريخها، على أنها جوهر متبدل، مقدمين بذلك جدولا بتصنيفاتها وجدولا بخصوص العلاقة التأثرية المتبادلة بينها وبين الأنواع الأدبية المجاورة لها، على أن يكون هدف الباحث في هذا الصدد: (موضعة) قصيدة النثر العربية كنوع أدبي في سياق جمالي وتاريخي مع الأنواع الأخرى.
إن ظاهرة قصيدة النثر في العالم العربي حالة أصيلة، وإن كانت في بعض الأوقات تبدو منتحلة، وان هذه الظاهرة ليست خارجة عن التكوين القومي، بالمعنى التاريخي. كما أن أية مقاربة لقصيدة النثر أو لتأرختها، في الفضاء الأدبي العربي، لا تأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصية، لا بل المحلية، سوف تكون مقاربة خاطئة من الأساس، لأنها ستكون قد طرحت على الظاهرة سؤالا زائفا لن تكون نتيجته في الأخير، غير مجموعة من أدوات الاتهام والمصادرة والأوهام التاريخية والتلفيقات النقدية من قبيل عدم اتقان العروض، التأثر بالشعر المترجم، الانخراط الطبقي في الروح البورجوازية... الخ، صعودا إلى، التمثل بالأجنبي والعمالة للغرب، وتخريب الخيال التراثي العربي... الخ
فهل قصيدة النثر العربية، أو كما يكتبها العرب الآن، هي نوع أدبي؟ وإذا ما كانت نوعا أدبيا فما هي مواصفاته الأسلوبية والبنائية؟
ثم، من جهة أخرى: (كيف)، وبأية صفة، يتعايش هذا النوع مع الأنواع الأدبية الأخرى؟ وبالتحديد:
ما هي علاقة قصيدة النثر (كنصوص متحققة) بالنصوص المجاورة لها من (شعر التفعيلة) ونصوص القصة القصيرة؟
وإذا ما كانت قصيدة النثر قد ساعدت على تنشئة نص سردي في رحم القصة العربية القصيرة، فكيف تم هذا التأثير؟ وهل هو تأثير متبادل ما بين النوعين؟
لقد نادت قصيدة النثر دائما بضرورة الانتباه للملفوظات اليومية، فما هو مقدار تأثير نثر الصحافة اليومية على تطوير لغة القصيدة النثرية؟
ومن جهة أخرى نتساءل عن:
كيفية تعامل كتاب القصيدة النثرية مع النص القادم من التراث العربي، الإسلامي والمسيحي على السواء. ماذا فعلت الصوفية الإسلامية بصفتها العقدية والمرجعية بثوب قصيدة النثر المتبدل دوما؟ هل كان أم ما يزال كت ابها يتعاملون مع التراث بصفته إرثا مقدسا، أم بصفته نصا مدنسا ينبغي تطهيره، وذلك بالعمل عليه، وفيه؟
لقد ظلت مسألة المواصفات الخاصة بقصيدة النثر (كما هي منقولة من التراث الغربي) وبين المواصفات المتحققة فعلا في النصوص النثرية العربية، ظلت من أهم النقاط التي لم يتوقف الحوار ولا الجدل بشأنهما في النقدية العربية بشقيها المختصة والصحفية من أجل تحديد معنى قصيدة النثر. وطبعا، ونتيجة للنهل الميكانيكي من المرجع النقدي الغربي، وكذلك نتيجة لروح العداء المتلبسة نقد نقادنا (المؤصلين)، لم يكن من الممكن استشفاف ولا استشراف (الروح الجديدة) لعمل القصيدة النثرية. فأنت لا يمكنك أن تفرض على ظاهرة ما في التاريخ، أفكارا من خارجها، قد لا يحتملها السياق. وأنت إن فعلت ذلك فإنك ستكون بعيدا بشكل مستحيل عن مقاربة الظاهرة نقديا، ذلك أنك والحالة هذه، تكون قد أغفلت درس السمات الأساسية للظاهرة المطلوب فحصها.
وهذا هو بالضبط ما حصل بشأن قصيدة النثر وموقف النقاد منها.
فقد استمرت هي بالجريان وحفر الطريق لنفسها، بينما النقد المؤيد والمعارض على السواء في واد غير ذي زرع. وكانت هي تؤتي أكلها من تشاء، ومن يشاء.
إن النوع الأدبي هو مؤسسة أدبية في جوهره. وبما أنه كذلك، فهذا يعنى أنه عقد "اجتماعي" أو (شرعة قرائية) بتعبير (هانز روبرت ياوس)، بين (مؤلف) وبين (قارئ) محدد. وتكمن وظيفة هذا النوع في تحديد الاستخدام المناسب لإنتاجيات ثقافية بعينها. وفي ضوء ذلك قد يقال بأن قصيدة النثر العربية تطرح نوعا من التعاقد غير اعتيادي بالقياس إلى التعاقدات الأدبية، ذلك أنها تلزم نفسها على نحو مباشر وغير مباشر، بالصراعات الجارية داخل الحقل الأدبي، وأيضا بالصراعات السياسية المتجلية في حقلي التقدم الاجتماعي والصراع الطبقي. إنما ذلك محاولة منها للتقرب أكثر إلى القارئ، ذلك الذي انصرف و ينصرف عن قراءة الشعر العربي (الحديث)، فأخذت قصيدة النثر تعبر أكثر فأكثر عن تطلعات القارئ وعن واقعه المتردي وتقدم في نفس الوقت بديلا محليا للشعر المترجم يلبي متطلبات القارئ الجديد في تذوق نوع من اللغة تختفي منها، بشكل أو بآخر، تلك الرطانة والفخامة اللغوية الموروثة عن عصر بائد، والتي لم تستطع قصيدة التفعيلة، نتيجة لعدم وضوحها الإيديولوجي وتذبذبها التاريخي، أن تتخلى عنه بالكامل.
ومع (موريس شابلان) فإننا نقول: إن قصيدة النثر لا تحدد ، أنها موجودة وحسب. وكما يعلمنا (ياوس) أيضا فإنه ليس من الواجب على الباحث الذهاب إلى البواكير ومعرفة البدايات بل الواجب الفعلي عليه هو تقرير ما هو معطى وموجود، ومن ثم درسه وتصنيفه ، ووضع كل حدث أو نص في تعاقبه الزمني، إزاء التاريخ العام. والهدف هو : من أجل التوصل إلى معرفة مدى جودة عمل أدبي ما، ومدى قابليته على الإجابة على سؤال أو أسئلة يطرحها القارئ أو تطرحها بيئة ثقافية ما.
هذا هو واجبنا الذي يفرضه علينا وجودنا في هذا العالم. ذلك أن وجودنا في هذا العالم هو وجود تاريخي، ولن نستطيع- كما يقول (غادامير) أن نتفرج من قمة جبل، بينما في الأعماق يمور كل شيء.
إذن:
قصيدة النثر العربية عمل فني له قابلية لتوليد انفعال خاص، يختلف تماما عن الانفعال العاطفي أو الحسي. وهي ليست قصيرة أو مكثفة بل مليئة بالاستطرادات والتطويل والحكي السائب وتقديم التعريفات والبراهين. ولقد كان م ل م ح التطويل أهم إضافة وضعتها قصيدة النثر في طريق التطوير الشعري، في عرب الثمانينات. ونحن نعتقد أن للحرب العراقية الإيرانية الطويلة (1980-1988) ولانتصار تيار الفكر البنيوي، حينها في مصر، اليد الطولى في بروز هذا الملمح.
قصيدة النثر العربية ليست قائمة بذاتها، إذ أن لعلاقاتها التجاورية مع الأنواع الأدبية والفنية الأخرى أهمية تذكر. أن جنينا سرديا (هو رغبة مكبوتة في القص والحكي) يتخلق دائما في رحم كل قصيدة نثر عربية أصيلة.
قصيدة النثر العربية ملتحمة جدا بكاتبها، في الوقت الذي لا تتورع فيه عن إقحام أمور لاتمت إليها بصلة، في صلب عملها. وذلك من أجل شيئين:
مغادرة السيريالية (الكتابة اللاواعية روح النكتة)، والتحلي الكاذب بروح الوقار والجدية كاستعادة لجلال الشعر العربي القديم.
إن اختيار الأسلوب، وتحديد النبرة، يفرضان ما يمكن تسميته ب- (التواصل والانفتاح). فقصيدة النثر العربية ذات شكل غير متكامل ونسيجها هلامي، إنها عمل مفتوح على (المحتمل) دائما.
كما أنها تتحمل الاستفاضة في استعمال الأدوات الجمالية والمبالغة في الصور والمحسنات البديعية. وهي، أي قصيدة النثر العربية، لا تتحاشى الادعاء والتظاهر المتعمد. وعلى عكس ما يقوله الفرنسيون، فإن قصيدة النثر العربية: تبدو مثل (فاترينة) صائغ في شارع النهر، أو بياع للمجوهرات الكاذبة في سوق المستنصر، ببغداد. وهي، إلى ذلك، تقرر مسبقا مبدأ المقابلة مع الواقع. ويمكن دائما المقارنة بينها وبين أي شيء آخر عبر وسيط تأملي. لقد أصبحت قصيدة النثر العربية قائمة على نوع من التحليل، أي أن (الذهنية) صارت جزءا أساسيا منها، والذي يكتبها يتحول كفاحه إلى إخفاء هذه الذهنية الملازمة جوهريا لقصيدته النثرية.
الكتابة النثرية ضمن التعبير العربي، هي ردة فعل مقصودة وعنيفة، ضد الانفعال السريع، (ولنتذكر خراب حربين، العدوان الدموي على العراق، الحصار المستمر الذي لا يمكن شرحه إلا بالعيش فيه) وهي عملية إدخال العقل في اللعبة الشعرية، ولعل أهمية النثر تكمن- في إطار الشعر العربي الحديث- في هذا الملمح بالذات، أي: الذهنية والعقلانية.
لذا، فإن الثلاثية المعروفة للمزايا في قصيدة النثر العالمية، تنعكس في العربية لتكون النسق التالي: بدلا من الإيجاز، هنالك التطويل، الحكي، اللاكثافة. وبدلا من التوتر والشد، هنالك التراخي، والسيبان أو التسيب، والتأمل. وبدلا من المجانية والجزافية، هنالك العقلانية والذهنية والتقصد.
ورغم ذلك، فإن تاريخ قصيدة النثر عند العرب المعاصرين، هو تاريخ تحديات وخيانات. تاريخ امتدادات وتخليات. كتبها ويكتبها المهمشون الخارجيون المسافرون المنفيون من الأقليات، والنوابت من الأقليات، ذوي الأصول المشكوك فيها، والأصوات الضائعة المشكك فيها، وكل من ليس لديه أو يبحث عن سلطة للكلام. إنها عانت وتعاني من مصير مماثل لمصير أولئك الذين تحاول قصيدة النثر تمثيلهم. لقد ظلت قصيدة النثر صوتا مكتوما داخل نسيج الأدب العربي، لا يكاد يسمع في المجتمع الثقافي العريض حتى يومنا هذا. والذي يحتج قائلا بأن ما يكتب الآن برمته هو من نوع قصيدة النثر، له نقول: إن شعرنا العربي اليوم هو رحلة (ضياعية) بين مفهومي: النثر الشعري، والشعر- بلا وزن ولا قافية.

ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة