بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

القنفذ المضطرب فوق النهار!

أنسي الحاج

عبلة الرويني في لقاء محموم مع انسي الحاج وحوار لم يتم


وصفه أدونيس في (فاتحة لنهايات القرن) 1980 بأنه (الأنقى) بين الشعراء.. حيث الآخرون ملوثون بالتقليد...
ووصف هو نفسه (بالشاعر الملعون).. فقصيدة النثر نتاج شاعر ملعون، ابن عائلة من المرضى على رأسهم الشاعر الفرنسي رامبو..
حدد (الجنون) (ونهب المسافات) و(التعزيل المحموم) و(الهسترة المستميتة) اسلوبا لمقاومته هذه البلاد، وكل البلاد المتعصبة لرجعيتها وجهلها..
انسي الحاج... شاعر قصيدة النثر الأشهر.. وصاحب البيان النظري الأول لها في مقدمة ديوانه (لن) 1960.
كان في الثالثة والعشرين يوم أصدر ديوانه الأول (لن)، لم يجرب قبله كتابة شعرية أخرى.. فقد خلق (حداثيا) ولم يصبح كما يتباها.

انسي الحاج

ولد انسي الحاج في (قيتوله) بالجنوب اللبناني عام 1937 ماتت امه وهو في السابعة من عمره بالسرطان تاركة له احساسا عميقا بالذنب و4 اخوة.. وحين تزوج والده مرة اخري صار له اخوة اخرون لايعرفهم.. عمل بالصحافة منذ عام ..1956 والى اليوم.
........
في الطابق الثامن من بناية جريدة النهار، بمنطقة الحمراء في بيروت وخلف مكتب أسود أنيق جلس انسي الحاج رئيس تحرير جريدة النهار أكبر الصحف اللبنانية وأوسعها أنتشارا.
حين بادرته بعزم (أخبار الأدب) عمل ملف خاص عنه، ورغبتنا في اجراء حوار معه.. لم يكتف بالاعتذار ولكن واصل استطرادات مخيفة:
أنا أحتقر الصحافة وأنفر من الاعلام!
لست (نجما) كفيروز لتلاحقني الصحف.. ولست (مهرجا) كادونيس لاروج لنفسي!!
لست (.....) لأكتب الشعر وأمارس الصحافة وأرد على اسئلة واروج لحالي!
لم يكتب عني ناقد مصري واحد..!!
بدا المشهد مضطربا، وفي مساحة اخري بدا أستعراضيا في مبالغته خاصة مع وجود الشاعر عباس بيضون والفنان وليد عوني الذي تصادف وجودهما في نفس اللحظة... ليكونا شهودا على ذلك المشهد الكابوسي فالذي يحتقر الصحافة لمجرد طلب الحوار معه يعمل فيها منذ خمسين عاما، ولايشعر باحتقارها وهو يسكن قمتها متربعا فوق رئاسة تحرير أكبر الصحف، متمتعا بكامل سلطتها ومكانتها وأموالها!
والذي ينفر من الاعلام ابدى امامي أنزعاجا مبالغا من قيام جريدة 'الحياة' بترجمة حوار معه عن الالمانية دون نشر صورته والتنويه عن الحوار في الصفحة الأولى.
.........
انسي الحاج لايعرفه أحد في مصر..
ذلك هاجس الاقتراب وسعي التواصل. في ضوء رفضه الدائم لكل الدعوات للمشاركة في المؤتمرات والمهرجانات واللقاءات الشعرية مع عدم توافر كتبه أو ارتفاع اسعارها ان وجدت.. ثم اخيرا مع اصراره على (التعزيل المحموم) وعدم التواصل.
لا أريد أن أعرف في مصر.. ولا أريد أن أعرف على الاطلاق!
ملأ جبران العالم.. وكتبت الرسائل الجامعية والمقالات عنه بكل اللغات لانه عرف دائما مجموعة من (النسوان) قاموا بالترويج له!!
(صحيح ان جبران خليل جبران كان صديقا لمي زيادة ولماري هاسكل التي اعانته كثيرا ماديا لكن من الفجاجة اختصار مجدة في علاقات نسائية قام بتوظيفها).
قطع انسي انفعاله الحاد بضحكة عالية موجها حديثه هذه المرة الى عباس بيضون ووليد عوني... الشعراء يتكالبون على اجراء الأحاديث الصحفية بينما أغضب أنا لاجرائة!
سألته: تحرك الماغوط قبلك. كتب قصيدة (الحزن في ضوء القمر) عام 1959 بينما كتبت انت البيان التأسيسي الأول لقصيدة النثر في مقدمة (لن) عام 1960 وقد اعتبرت انت موقف الماغوط الاصح شعريا من حيث ابتعاده عن الهموم الثقافية.. فماذا عن همومك الثقافية؟
مرة اخرى غضب انسي..
ابدي استياءه من مفرده (تحرك) الماغوط و(قبلك)...
أنا صاحب أول وثيقة في قصيدة النثر المكتوبة بالعربية ديوان (لن) هو الكتاب الأول المعرف نفسه بقصيدة النثر والمكتوب بهذه الصفة تحديدا.. والمتبني لهذا النوع تبنيا مطلقا.
انسي الحاج هو الأول دائما.. تلك خصلته الأساسية وذلك سعيه المستمر..
كان يصاب بالمرض الفعلي اذا صار (الثاني) في صفه الدراسي وليس الأول.. وكان والده يستنجد بالاساتذة (سيموت لو لم تعطوه الدرجة الأولي).
لكن محمد الماغوط كتب قصيدة النثر قبله.. نشرت (مجلة شعر) عام 1959 مجموعة (حزن في ضوء القمر).. كذلك نشرت المجلة لجبرا ابراهيم جبرا في نفس العام مجموعته (تموز في المدينة).. ونال الماغوط اول جائزة لجريدة النهار تمنح لأفضل قصيدة نثر وقدرها 500 ليرة لبنانية.
وكتب أدونيس دراسته حول قصيدة النثر في العدد 14 من مجلة شعر في السنة الرابعة عام 1960 وذلك قبل صدور ديوان (لن) لانسي الحاج.. حقائق لاتفسد على انسي الحاج (دوره) ولا تزحزح (مكانته) غير المحددة في حركة الشعر العربي.
......
لانسي الحاج 8 دواوين بالعربية.. (لن) 1960، (الرأس المقطوع) 1963، (ماضي الأيام الآتية) 1965، (ماذا صنعت بالذهب، ماذا صنعت بالوردة) 1970، (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) 1975، (كلمات، كلمات، كلمات) 1978، (خواتيم) 1991، (الوليمة) 1994.
.......
في مقدمة (لن) وصل انسي الى أنتهاك خطاب الهوية العربية بشكل عاصف، وهو ما استحق دائما نقمة العروبيين عليه اكثر من اي شاعر اخر خاصة في رؤيته الشعرية المستندة على شرط (المجانية) كشرط اساسي للكتابة.. وفي موقفه الحاد من الثقافة العربية..
(أشعر بالغربة في المقروء العربي... قراءة العربية تصيبني بملل لاحد له)
(ما أبحث عنه اجده في اللغة الفرنسية. لان الفرنسية هي لغة (الانتهاك) بينما العربية لغة (مقدسات)..
(ان تخون تقليدا عربيا..ليس شرفا لنا وحسب، بل هو قبل ذلك عمل طبيعي احساسي.. لقد ظلمنا هذا التقليد، ولايقدر الا ان يظلمنا فهو سجين، بل هو السجن.. وشرط الحرية هدم هذا السجن، هدمه على من فيه، ان لم يستطع تخليص من فيه من انفسهم..)
وحول التأثيرات الفرنسية على انسي الحاج يكتب محمد ديب استاذ الأدب المقارن في جامعة (البرتا) بكندا:
'اتكاء الحاج على رامبو واستشهاده به بوصفه مخترع لغة وشكل، وبوصفه ممثلا بارزا لعائلة من المرضى استطاعت ان تخلق قصيدة النثر، يعززان اعتقادنا بأن الحاج يقرن نفسه بهوية رامبو فكريا وفنيا معا.. كما ان استخدامه للعبارة المشهورة (شاعر ملعون) واسترساله في تفريعاتها يؤكد لنا انه واقع كذلك على نحو ما تحت تأثير الشاعر الناقد الفرنسي فيرلن وتحت تأثير مفهومه لمن أطلق عليهم 'الشعراء الملعونين'.
يعترف انسي الحاج في مقدمته لكتاب سوزان برنار: (انني استعير بتلخيص كلي تحديد ماهية قصيدة النثر من احدث كتاب في هذا الموضوع بعنوان (قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا للكاتبة الفرنسية سوزان برنار) لكنه يعود في عدد الآداب الذي تناول تجربة مجلة شعر (اكتوبر 2001) لتوضيح ذلك الاستناد على المرجع الفرنسي:
(لقد فعلنا ذلك ظنا منا ان الاستشهاد بباحثه اكاديمية رصينة قد يعيننا على ترسيخ مالا وجود لمثله في تراثنا.. ولكن الحقيقة اننا لم نكن في حاجة الى هذا الاستقواء.. ولا احد في مشاريع الخلق يحتاج الى مراجع)
ولعل انسي أحد الذين وصفهم الماغوط في شعراء (مجلة شعر) (قل لاحدهم ثلاث مرات: المتنبي.. يسقط مغشيا عليه.. بينما قل له على مسافة كيلومتر جاك بريفير فينتصب ويقفز عدة أمتار عن الأرض كأنه شرب حليب السباع لأن هذا غربي وذاك عربي).
....
تولي انسي الحاج سكرتير تحرير (مجلة شعر) 1964 في اصدارها الثاني بعد خروج ادونيس منها.. كان من أكثر الحريصين على الهوية اللبنانية المنفصلة عن كل الهويات..
وحين خصصت المجلة بعض اعدادها لقضايا قومية كالثورة الجزائرية والقضية الفلسطينية أعتبر انسي ذلك استسلاما لاغراء (المراعاة للمزاج السائد) ورأى ان الأمر كانت (المجلة بغنى عنه كما هو في غنى عنها. كل واثق من صدقه واخلاصه)...
خرج ادونيس من مجلة شعر 1964 بعد ان وصل التناقض منتهاه خاصة في قضية (جدار اللغة) تلك التي تبناها الشاعر يوسف الخال مؤسس (مجلة شعر).. في استخدام الفصحي دون استخدام الحركات، اي استخدام الفصحي المحكية كما تنطق في الحياة اليومية.. وهوما ظنه البعض (دعوة الى العامية).
لكن لماذا يتحامل انسي الحاج على ادونيس؟
ليس فقط (جدار اللغة) لكن انسي يظن دائما يؤكد اصدقاءه ان ادونيس يتآمر عليه والدليل واقعة باريس.. حين رتب ادونيس منذ سنوات امسية شعرية في باريس دعى اليها انسي الحاج وعباس بيضون.
لم يذهب انسي حيث اعتبر الأمر (إهانة) فكيف له ان يقرأ الشعر مع آخر.. أو كيف له ان يقرأ الشعر مع عباس بيضون(!!) وسافر بيضون الى باريس وشارك في الأمسية. لكنه ظل غاضبا من موقف انسي الحاج لأكثر من 4 سنوات ولعلها الصدفة المدهشة التي ساقته الى مكتب انسي الحاج لأول مرة بعد تلك القطيعة الطويلة لتجعل منه شاهدا على الموقف المضطرب.
.....
استعاد هدؤه قليلا..
عبلة ارجو ان ألا تعتبري أعتذاري موقفا من الثقافة المصرية.. فأنا أحب مصر وأحب ثقافتها.. لقد كان عاصي الرحباني يغضب مني ويتهمني بحب عبدالوهاب اكثر من فيروز.
لم أعلق على تلك العلاقة بالثقافة المصرية، فقد شغلتني (فيروز) تلك التي أحبها انسي كما لم يحب قط. كتب العديد من القصائد وديوان (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع)..
حكايات طويلة يتبادلها اللبنانيون عن عشق انسي لفيروز.. حكايات عن حب من طرف واحد.. (طرف انسي بالطبع) وحكايات عن ارتباك حياة فيروز وعاصي الزوجية (قبل رحيله) بسبب ذلك الحب الوافد...
ومن قبل ان اسأله شيئا.. بادرني منفعلا ستسأليني عن (فيروز)، و(قصيدة النثر)، و(ديوان لن) و(مجلة شعر).. نفس الموضوعات ونفس الاسئلة لقد مللت(!!).
ادرك انسي انني اريد الامساك به، هو الهارب غريزيا من كل محاولات الامساك به... لم يحتمل اسئلة قادمة من عوالم مختلفة مغايرة لعالمه المسكون بالليل والغناء والصمت والغيوم والملائكة، بالغ في العزلة والاعتزال... وعلى مدى يومين متتاليين كان لقائي بانسي الحاج محموما.. هو يمارس انفعالا غير مبرر واحتفظ أنا بهدوء (ليس من عاداتي) حتى فاضي الكيل تماما: اسفه يا استاذ انسي لا احب الحوار معك!

(اخبار الأدب)

عبلة الرويني 

24 12 2001


ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة