بحث هذه المدونة الإلكترونية

30‏/12‏/2021

"رتق الهواء" للـشاعر وديع سعادة - ضدّ العدم الشرس

الشاعر وديع سعادة

شوقي مسلماني


بل كلّ شيء مُغلَق ما عدا نافذة، ذلك عندما تحطّمت المرآة للمرة الاولى، ذلك عندما صرخ البطن للمرة الاولى، وذلك عندما حفي القلب كثيراً.
النافذة - الشعر، والشعر النافذة. الجرح مفتوح وانتهى الأمر... وبل جرت مياه كثيرة تحت الجسر ثم لا يكون إلاّ ما كان، ثم أبداً نافذة واحدة - الشعر.
عشر مجموعات: "ليس للمساء أخوة" بدءاً، وتكرّ السبحة حتى "رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكّر في الحيوانات" إلى "مقعد راكب غادر الباص" ثمّ "بسبب غيمة على الأرجح" و"محاولة وصل ضفّتين بصوت" إلى "رتق الهواء"، فيما خيوط تتقطع في شبكة الأمان، وفيما طفل البحر يرتق بدأب... لئلاّ يجفّ البحر الوحيد - الأخير. وفواصل ونقاط - جزر وموانئ هو "رتق الهواء"، وإبحار في مواجهة الآتي من جهة البحر نفسه، إبحار ضد الثقوب، وإبحار تشبثاً بالنافذة. الحقائق المرّة كثيرة، وأكثر مما تتحمله المرايا المحطمة في الجهات كلها.
إذا كانت المناورة أبعد من قطر الأرض، لكي تكون قطرة ماء في الرمل اللانهائي، فلا بد من مناورات تالية ضد الإختناق، ضد رعب من يعوم وحيداً في مجاهل رغبة الملح الزرقاء، ضد الأرض التي تقترب كثيراً، ضد الموت الأول قبل الثاني الأخير، ضد العدم الشرس المستيقظ أبداً.
إذا الماوراء ابتدع الحاضر فليبتدع الحاضر حاضراً آخر، فليبتدع الشاعر وديع سعادة حاضره الآخر، ليستنكر أولاً أن يكون الماوراء وقفاًعلى جنس، أو فليستنكر أن تكون الملائكة أكثر طهراً منه. ليستنكر أن تكون الشياطين أكثر غرقاً منه، وليستنكر الثنائيات اللابشرية، وليكن للأطفال لعب كثيرة. أجل، الرغبة الأخيرة هي الإحتجاج الأعلى صوتاً ضد ابتداعات الماورائيات، ضد هذا الحلف غير المقدّس بين شر الخرف وشر الجشع، ضد البشاعة التي تقترب كثيراً، ضد البشاعة المتعاظمة حتى زمن لم ينكسر بعد.
لا يزال الشاعر وديع سعادة يقول: أوقدوا النار أريد أن آكل وأشرب وأسكر معكم. أريد أن أشرب نخبكم يا صيّادي الآلهة في مجاهل العدم، في رحلة الإنقلاب العظيم، حيث يحيا القتيل ويموت القاتل، وينحني السيد ويشمخ العبد، وتصير الرعية اللهَ، واللهُ الرعية.
خذوا كلوا... هذا هو الجسد الذي جعلكم جائعين. سينفجر البركان قريباً. وصلت النار إلى الحدّ، وسينفجر. ستكون للأرض مائدة عامرة من اجساد مشويّة، ستُطهى الملائكة والقديسون والآلهة، وتُطبخ العفاريت والشياطين والجنّ، ويجد المشرّدون في الأرض والجائعون أطباقاً وُضِعت فجأةً أمامهم. سيكون احتفال كبير للمنسيين على الأرض، فالبركان اقترب انفجاره وسيشبع الجوعى من فحم الأرض أخيراً.
لا يزال الشاعر المنهوب، الشاعر الذي ليس له أخوة يقول: راكضٌ لاهثٌ لا درب لي ولا جهة. هاربٌ من فم الأرض. الأرض اقتربت منّي كثيراً، وأريد أن أبتعد. ظلمتُ ريش الطيور فكيف أطير؟ ظلمتُ الموتى كيف يستقبلونني؟ والغيم إن أتى بماذا ألعب معه؟ والوهم إنْ تخيّلتُه كيف أقيم فيه؟
راكضٌ لاهثٌ كيف تؤويني الكلمات؟ والأشياء إذا نظرتُ إليها كيف تعرفني؟ وماذا أقول للإرتباك إنْ تحدّثتُ إليه؟ وكيف أربك الإرتباك وهو مربكي؟ وإنْ بالوهم اخترقتُ الفراغ وأربكتُه فهل يمكن حقاً أن أساويه بالإمتلاء؟ لقد اقتربت الأرض، اقتربت الأرض منّي كثيراً، الأرض اقتربت من الفراغ.
ولا يزال يطمع كثيراً من الخيوط التي رماها إلى الأغوار البعيدة. إمّا يصيب وديع سعادة كذبتَه الكبيرة عن سابق تصميم وتصوّر وإمّا لا يصيب. هذه مهمته الوحيدة، لا خيار آخر.

"النهار" - الخميس 11 أيار 2006


ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة