أحمد بزون
هل الشعر الجديد ثورة شعرية ثالثة، إذا اعتبرنا شعر التفعيلة هو الثورة الأولى، وقصيدة النثر الثانية؟
يجيب بيان «النص الجديد» (المرفق) بنعم، لكن المسألة ليست بهذه البساطة. إذ يمكن أن نسأل: إذا كانت قصيدة النثر قد شكلت انقلاباً على شعر العمود وشعر التفعيلة، فهل النص الشعري الجديد هو انقلاب على قصيدة النثر؟ على شعريتها؟ على لغتها وموسيقاها وإيقاعها؟ على إيجازها وتوهجها ومجانيــتها؟ أم أنه شكل من أشكال الانقلاب على الحــياة، الانقلاب على الأساليب القديمــة في الحــياة، ومنــها الشـعر.
صحيح أن الشعر يتغير مع الحياة والتقدم الحضاري، إلا أن نوع القصيدة موضوع آخر، أقصد مثلاً أن الحياة تغيرت كثيراً بين العصر الجاهلي والعصر العباسي مثلاً، إلا أن الشعر بقي محافظاً على نوعه العمودي وإن حدث فيه تطور من الداخل. فهل تطور، بهذا المعنى، نوع الشعر عندما انتقل إلى الشاشة والشبكة العنكبوتية؟ هذا هو السؤال الأساس الذي لا بد من أن ينطوي عليه الكلام على الشعر الجديد.
أسارع إلى القول إني لست مقتنعاً بأن النص الجديد يشكل ثورة شعرية ثالثة، كما جاء في البيان، لكن المؤكد أنه يتكيف مع الحياة الجديدة، مثلما تكيف الشعر العمودي في الأندلس مع الحياة الجديدة زمنئذٍ، ليحمل في داخله الكثير من التغيرات المهمة، ويشكل تأسيساً لكسر عمود الشعر في ما بعد. يمكننا اليوم أن نتكلم، ببساطة، على حداثة ثالثة على مستوى الحياة والحضارة الإنسانية، ويمكن أن نطلق عليها تعبير «ثورة ثالثة»، إذا اعتبرنا أن اختراع غوتنبيرغ للمطبعة شكّل الحداثة الأولى في عالم التدوين أو الكتابة والنشر، واعتبرنا أن اختراع الكومبيوتر شكل الحداثة الثانية، ثم شكّل اختراع الإنترنت الحداثة الثالثة، أو الثورة الثالثة. هذه الثورة تمثلت في الشعر بتطور الوسائط التي تحمل لغته لا بتطور نوعي للشعر نفسه. ولا عجب، فقصيدة النثر، رافقت الوسائط الثلاثة، عندما ولدت في أحضان المطبعة منذ 168 سنة، ودخلت منذ حوالى أربعين سنة الوسيط الثاني، أعني الحاسوب الشخصي، وهي تدخل منذ سبعة عشر عاماً، عبر هذا الحاسوب، إلى عالم الإنترنت الجديد... وفي المراحل الثلاث بقيت قصيدة النثر محافظة على كونها نوعاً ثالثاً من الشعر في العالم.
وإذا كانت من تسميات النص الجديد، أو الشعر الجديد، بالإضافة إلى الألكتروني والرقمي والافتراضي، تسمية «الشعر الوسائطي»، فإن ذلك يشمل قصيدة النثر مثلما يشمل سواها من الأنواع. إن نفي وجود نوع جديد من الشعر اليوم لا يعني استحالة وجوده غداً، فقصيدة النثر ليست آخر مطاف الأنواع الشعرية، فلقد مرت كل هذه السنين على أول قصيدة نثر أطلقها الشاعر الأميركي (وولت وِيتمن)، ما يعني أننا نتحدث عن نوع شعري يمكن أن يفشل ذات يوم في مواكبة تطور العصر، فيقوم بدلاً منه شكل جديد، ولا غرابة فالتجديد ديدن قصيدة النثر وهو جزء من تعريفها، وقد قال أدونيس، عرّاب قصيدة النثر العربية: «إن قصيدة النثر حرة في اختيار الأشكال التي تفرضها تجربة الشاعر، وهي من هذه الناحية تركيب جدلي رحب، وحوار لا نهائي بين هدم الأشكال وبنائها». ومع ذلك يمكن أن نطلّق هذا الشكل إذا وجدنا أن الحياة تتطلب ذلك.
سخرية
لا شك في أننا نشهد اليوم ثورة في علاقة الأدب أو الشعر، بالعصر، من خلال ما يجري من ربط فوري، لأي نص يُكتب، بالعالم، أو ربط الشعر بالعولمة. إن الشعر الإلكتروني هو أيضاً مرّ بمراحل ثلاث، بدأت بالورقي، عندما ابتدع أستاذ الفلسفة عادل فاخوري ما أَطلق عليه، في نهاية السبعينيات، تسمية «القصيدة الالكترونية»، في ظل تجارب «حَرْفِيّة» و«بصرية» شبيهة، كانت تلك البداية مزحة أمام التطور الالكتروني المتمثل باختراع الحاسوب. فعندما دخلت قصيدة النثر مرحلة ثانية مع الحاسوب، في سبعينيات القرن العشرين، صارت الكترونية بالمعنى الصحيح. فالالكترونية تعني وجود القصيدة على شاشة الحاسوب، حيث تتشكل علاقة جديدة بين مثلث (الشاعر، النص، القارئ). فالنص الورقي ليس نصاً عابراً، إذ يكتبه الشاعر ويتحول بين جدران المطابع إلى نص مطبوع، يصل إلى القارئ بعد وقت قد يطول أو يقصر. بينما النص الالكتروني يبني علاقة أولى بين الشاعر والحاسوب، إذ يتدخل الأخير في الكتابة، أي تتدخل البرامج، التي يكتب بواسطتها الشاعر، بشكل الحرف وحجمه، وطبيعة الحذف والإضافة، ثم قد يرى الكاتب أهمية في إضافة رسوم أو حركات للنص، إذ قد نقرأ نصاً يتشكل مع الحركة، أو تتوالى حروفه أو جمله أمامنا بأشكال مفتوحة على احتمالات عدة، أو قد يوضع النص على خلفية صور تتحرك، أو تترافق معه، أو تضاف إليه موسيقى، أو سوى ذلك من الفنون الأخرى التي تتداخل في النص وتندمج على الشاشة (أو في قرص)، فتجعله مختلفاً عن النص الورقي، وتعطيه الصفة الرقمية.
في هذه المرحلة، التي سبقت الإنترنت، خصوصاً في بداياتها، كان يمكن أن يبقى شاعر قصيدة النثر بعيداً عن العلاقة بالحاسوب، إذ يصل شعره إلى الشاشة بالطريقة نفسها التي كان يصل بها إلى المطبعة، أي أن وسيطاً يمكن أن يربط الشاعر بالنص الالكتروني. ثم برزت إمكانية أن يتحول الحاسوب نفسه إلى شاعر، وقد جهزت برامج تستطيع أن تقلد الشعراء، فتصنع من شعرهم قصائد جديدة، حتى أن العارفين يقولون إن الحاسوب يمكنه أن ينتج قصائد نثر، بل شعراً موزوناً، ولا يخطئ في النحو والصرف. المهم أننا عندما نقول قصيدة حاسوبية تستوي في التسمية قصيدة الوزن وقصيدة النثر. ومعهما بالطبع قصيدة التفعيلة. واليوم مع اختراع الإنترنت في تسعينيات القرن الماضي، أي في المرحلة الثالثة لقصيدة النثر، ما زالت كل أنواع الشعر تستوي في هذا الحامل كما تتساوى في استخدامها للإنترنت، فلا فضل لنوع على آخر إلا بقدرة صاحبه على الترويج وفتح مواقع جديدة للإعلان عن خياراته.
أردت هذه الجولة التاريخية لأقول إننا في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة التي نعيشها، لا بد من أن ننتبه إلى أن العلاقة بين تطور الحياة وتطور أي فن من الفنون ليست تلازمية بالضرورة، فالظروف التي يعيشها أي فن أكثر تعقيداً وتداخلاً من أن نحسم توصيفه. وإذا كانت قصيدة النثر، في الأساس، عصية على التوصيف، فإن تعبير «الشعر الجديد» أكثر التباساً، خصوصاً عندما يُربط بالإنترنت، إذ رغم كل التقدم الذي أحرزته قصيدة النثر لم تَحْسُمْ سيادتَها على عرش الشعر، أي أن أحداً لم يجرؤ على القول بإلغائها للأنواع الأخرى، فكيف يحسم «البيان» بهذه البساطة قوله إن المستقبل رقميّ، أي للشعر الرقمي. هذا الكلام يذكرنا بالمسار الكاريكاتوري للإنسان، تبعاً لنظرية داروين، أي بتحوله إلى مسخ برأس كبير وأطراف قصيرة تتدلى منه. نعم نستطيع بهذا المعنى القول بسخرية خالصة إن المستقبل للقصيدة الرقمية، أو أنه عندما ينتهي جيل المخضرمين الذي نحن منه فإن الأمر يصبح محسوماً. لا أعزائي، إن المستقبل اليوم خارج هذا الديالكتيك. المستقبل مفتوح على احتمالات لا يستطيع أحد تقديرها، فمن يدري ما الذي يحصل في دنيا الاتصالات في المستقبل. التجارب وحدها التي تقرر، والتطورات قد تسبق خيالنا في عالم يجري بسرعة غريبة.
الحاسوب والكتابة الشعرية
نعم يتدخل الحاسوب في الكتابة الشعرية، ويحدث أكثر من ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن النصوص الشعرية التي تكتب تتخذ الطابع الفوري، فهي في اللحظة التي ينهي فيها الشاعر كتابة قصيدة يبدأ دور القارئ، فالكتابة هنا ليست مجانية بالضرورة كقصيدة النثر، إلا أنها عابرة أو زائلة، إضافة إلى أن النص قد يتيح بحركته تدخل القارئ في ما يمكن اعتباره إعادة الكتابة، إذ يكون النص البصري نفسه مفتوحاً على احتمالات عدة. هذه القراءة تختلف بالطبع عن القراءة الورقية، فالعديد من كتّاب الشعر الالكتروني يكتبون نصوصهم لتُرى كصورة أولاً، قبل أن تقرأ، أي يهتمون بتقديم الصورة البصرية، قبل الاهتمام بالصورة الشعرية داخل النص. من هنا يأتي دور القارئ مختلفاً، بل مزدوجاً، وقد أدرج النقاد فعله تحت مسمى «الكتابة/ القراءة»، وهذا ما جعل البيان يتبنى مقولة «الكارئ» لنبيل علي، مع أن هذا التصنيف ليس دقيقاً، بمعنى أن النصوص الأدبية التي توضع في الحاسوب لا يضعها بالضرورة الكاتب نفسه، بل إن العديد من النصوص الورقية ينقلها مهنيون إلى الشاشة، فلا يمكن أن نلحظ تفاعل الكاتب مع الحاسوب، ولا ننسى أن العديد من الكتب القديمة والحديثة ونصوص المنشورات الورقية تتحول يومياً إلى الكترونية، وأن العديد من النصوص الشعرية التي نراها ويتفاعل معها القراء لم تولد الكترونية، ولا تنطبق عليها بالتالي تسمية نصوص جديدة، لمجرد أنها خُزِّنت في الحاسوب. ثم إن العديد من النصوص التي توضع على مواقع التواصل وزوايا التفاعل لا تكسب أي تعليق من القراء، فيبقى الكاتب إزاءها كاتباً والقارئ قارئاً.
إذاً، دعونا نتفق على أن ليس كل نص إلكتروني نصاً جديداً، إذ علينا أن نميز بين النص الالكتروني (أي المنقول إلى الحاسوب) وذلك النص الذي ينتجه الشاعر في علاقته المباشرة بالحاسوب، أو تفاعله المباشر والفوري مع القارئ، أو خضوعه لشروط مواقع التواصل الاجتماعي، أو تعامله مع التقنيات الجديدة المتاحة.
نعم نحن نعيش اليوم دورة حضارية جديدة، مفتوحة على سائر الاحتمالات، الوصولِ إلى الإنسان الأعلى، إلغاء الكتابة ولا ضرورة القراءة، كما يتوقع بعض الحاذقين في علوم المستقبل، وبالتالي فالوصول إلى نص جديد، كذاك الذي وصّفه «البيان»، قد يكون احتمالاً، لا نتيجة محسومة.
السفير 15/02/2013 العدد: 12407
بيــان النــص الجديــد
إنه في ظل زخم المؤتمرات التي تقام لإثبات شرعية الأنواع الأدبية، كل على حده، وبالأخص قصيدة التفعيلة والقصة القصيرة، وأخيراً قصيدة النثر بوصفها التجلي الأخير للشعرية العربية، وكأنها مهددة بالانقضاض عليها، في الحين الذي صارت فيه مسيطرة على كل الوسائل الإعلامية، وهو ما فعلته قصيدة التفعيلة من قبل. تعيد رؤيا «النص الجديد» الاعتبار لتشعُّب النص ولامركزية أي نوع شعري، إذ تعيد النظر في كثير من المفاهيم النص/ شعرية وفق عدد من المتغيرات، منها: لا جدوى التصنيف مع وجود كتّاب يمكن الحديث عنهم كعابري أجيال، وأهمية الالتفات إلى النص نفسه وإلى ما يكتب حالياً على الشبكة العنكبوتية وفق إدراكية أن المستقبل رقمي أكثر منه واقعياً، إضافة إلى وجوب إعادة النظر في مفهوم الريادة، وأنه لم يعد فردياً البتة.
يقدم النص الجديد نفسه باعتباره نصاً عابراً للأنوع والفنون، مستوعباً إياها تارة ومتجاوزاً إياها تارات، فهو نص عصي على التصنيف، يتبلور بعيداً عن المجانية والتهديف معاً، ولأنَّ الآلة أصبحت شريكاً فاعلاً في كتابة النصوص، وليست مجرد وسيلة أو وسيط، فقد أصبح الوعي بالنص الإلكتروني حقيقة واقعة، تجعل من النص الجديد بالضرورة نصاً تفاعلياً، خارج الزمن وأكثر يومية من اليوميات، وهو مع ذلك نص شعبي يتلبس الشاشة، والورق معاً، بمعنى أنه نص مزدوج الكتابة والتلقي، وينطلق من رؤى صعبة التلخيص، يتجلى في أربعة أنواع من النصوص (حتى الآن على الآقل):
1ــ نص التأسيس /قصيدة النثر الإلكترونية / النص الأم.
2ــ نص الموبايل.
3ــ النص الجماعي (نص الانفلاتات).
4ـــ النص الرقمي المحض (التفاعلي) أو الهايبر تكست .
إن ثورة النص الجديد بوصفها حداثة ثالثة تقدم جملة نصوص وليس عملاً واحداً، بداية ً بالنصوص المتأثرة بالمرحلة المنطلقة من فكرة عدم وجود المنطلق نفسه (اليتم)، وليس انتهاءً بنص الموبايل والنص الإلكتروني بمعناه العام الوسط بين التفاعلية المحضة والكتابة، ونص الانفلاتات، والنص التفاعلي كما سبق.
إنَّ أهم ما يميز هذا الجديد غياب مفهوم القارئ والكاتب نهائياً، فالاحتكار الذي شجبته قصيدة النثر وناضلت لإنهائه صار اليوم في حكم المنتهي، مع بروز الحافز المقروء الداعي إلى الكتابة الموجب لها، وربما من خلال الإفصاح عن عدم الرغبة في الكتابة وظهور فاعل جديد هو «الكارئ» بمصطلح نبيل علي.
أصبح مصطلح الغرض الشعري أكبر من أن يكون مديحاً أو هجاءً، بل اندمجت كل الأغراض بعضها ببعض، وظهر غرض أكبر وأعم هو الكتابة عينها، ظهر الغرض من جديد، ما أوجب الاعتذار المستمر لفكرة الغرض نفسها التي طردها الشعر من ملكوته.
يمكن الحديث عن هذا النص بأنه نص النوع، أو النص العابر للأنواع، لكنه ليس ذلك النص الذي تحدث عنه إدوار الخرَّاط في الكتابة عبر النوعية، وإن كان يأخذ منه الكثير، بل يمكن أن تكون حركته عكس مسمى حركته عند الخراط، فمصطلحه (القصة ــ القصيدة) يصبح مع النص الجديد (القصيدة ــ القصة)، وربما امتد ليصبح الخاطرة ـ القصيدة ــ القصة ــ الأشكال الإلكترونية المتحركة ـــ الأيقونات البديلة. شعرية قائمة على السرد وله هنا طرقه وحساسيته.
إن هذا الشكل الجديد (مع رفض كتابه لمصطلح الشكل) مع امتلاكه خصائص قصيدة النثر أو بالأصح معظمها متنازلاً عن كثير منها، إلا أنه نص إلكتروني، تجعلنا إلكترونيته نركز السهم في عين نص الميديا أوالنص التفاعلي الذي هو جزء من هذا النص الجديد.
إن النص الإلكتروني الذي تقصد إليه مقاربات النص الجديد نص قائم على كل أسس وخلفيات المكتوب الحامل لثقافة العصر وقناعاته، وتسليماته بالتغيير والعبورية /الأصل (انظر ديمومة العابر عند هايدجر) مع عميق أسئلة عن كيفية الاستفادة من المرحلة... أو بمعنى آخر استغلال شعريتها لأنها بالتأكيد ستغدو يوماً ما كثيرة الوطء ما لم تستوعب ما سيأتي (وهو ما تعمل عليه رؤيا النص الجديد). إنَّ الانفلات هذه المرة انفلات جماعي، وجماهيري.
يسقط النص الجديد الوزن إسقاطاً تاماً من اعتبارات الشعرية، فما يهم هو توفر الخصائص الأخرى (في العمود بالطبع يحتاج الأمر لكم وكيف من التجديد وتداول الرؤى لحل إشكالية موسيقى تستبعد الخاصية الجديدة)، إنه نص ينبع من حساسية جديدة في التعامل النصي، يستبعد البلاغيات المتآكلة كملامح زمن مضى، يصنع استعاراته التي يشعلها تشابك معجمه بالسياقين الداخلي والخارجي، ورغم أنه يرفض المجانية التي كانت صفة من صفات قصيدة النثر إلا أنه نص ذهاني الطابع، يعتبر البناء الذهاني للنصوص طريقة أثيرة في الوعي.
لم يعد صدم المتلقي بما لا يعرف مستساغاً عند الجيل الجديد من الكتاب، فالاستغلاق الذي كان القراء يشكون منه ذهب إلى غير رجعة، من دون أن يعني ذلك ــ كما تقدم ــ اختفاء البعد التأملي والفلسفي، لأن الشعر أبداً كامن في الإشكالية، بمعنى أنه نص رؤيا وواقع وافتراض. كما أن من سمات النص الجديد الإيهام بالمنطقية والحوارية المنظمة. وكذلك الاستفادة من اللهجات العامية والاقتراب من خصائصها ورفع ما يناسب من مفرداتها وكائناتها وسياقاتها إلى النص من دون اعتبارات تعليمية. كما أن النص الجديد لم يعد ذا بنية واحدة، بمعنى أن مفهوم بنية النص الكبرى وبنيته العليا كما هي عند «فان ديك» صعبة الإسقاط على هذا النص، عند دراسته بمفهومها الأحادي، لأنه نص يعتمل فيه عدد من البنى الكبرى (المضمونية) والبنى العليا (الشكلية ــ بنى النوع، نص جامع، عابر للفنون (وليس للأنواع، بمعنى سقوط مفهوم تآزر الفنون وتداخل الأنواع لصالح تداخل الفنون وتمازجها). أما مرجع هذا النص فليس غائباً لأنه نص متعدد المراجع، بحيث يصعب تحديد وجود مرجع منها وجوداً واضحاً، وحيادياً. فهو دائم الإحالة لاتجاهات ومتغيرات شتى.
ينظر إلى هذا الجديد على أنه نص إنساني، كونــــي (ملحمة ما بعد الألفية) بأيدلوجيا العولمة والتكنولوجيا/ الثقافة، حيث أدت تفاعلات الواقع الافتراضي إلى تفكيك العلاقات الفيزيائية بين الأفراد، لتتفكك العلاقات التقليدية نهائياً، ويظهر مجتمع «سيبري جديد»، بما يسمى ثقافة ما بعد القومية. post national community
تتسم لغة هذا الفضاء، إضافة إلى بساطتها بميلها إلى لغة النص المترجم (بعيداً عن النص الأصلي)، إذ تستفيد من بناء وتركيب النص المترجم، وهي تهمة قديمة ألقى بها قديماً بعض التقليديين في وجه قصيدة النثر، وتبرأ منها كتّاب قصيدة النثر كثيراً، ومع النص الجديد أصبحت سمة إيجابية لخلق لغة مشتركة لنا أن نحلم بقدرتها على القضاء على ازدواجية المنطوق والمكتوب في ثقافتنا.
([) «بيان النص الجديد»، صدر عن ملتقى النص الجديد الذي أقامته مؤسسة أروقة للسنة الأولى العام 2010، وعقدت حلقته الثالثة منذ أسبوعين، وكانت ورقة الزميل أحمد بزون واحدة من مداخلاته.
المتلقي تبدّل وصار رقميّاً شبكياً واتصالياً و«بصرياً» بامتياز
الوسائط في العصـر الرقمي
من كتاب «جدران ١٤ فبراير ـ غرافيتي ثورة البحرين»
أحمد مغربي
هل من أحد «يَعرِف» هذا النص الإبداعي؟ إنه نص فنيّ صنعته فتاة هائلة المخيّلة نَسَجَت رواية ضخمة، تتألّف من مجموعة حكايا تربطها خطوط متشابكة. الأهم أن الرواية ومُكوّناتها وصلت الى المتلقي وأَسَرَته. (كان مَلِكاً، وهو أمرٌ يمكن إعطاؤه دلالة رمزية أيضاً باعتبار المتلقي هو ملكٌ بمعنى ما، أقله أنه يملك ألا يتلقى نصوص الابداع الفني). انغمس «المُتلقي» في الرواية. تدامجت أخيلته ومشاعره وذائقته وثقافته وبواطنه، مع خطوط النص الإبداعي للفتاة مُبدعة النص الآسر. تفاعل «المُتلقي» مع النص. انغمس فيه. وصار جزءاً منه. لا تكتمل رواية هذا النص الأدبي الآسر من دون حكاية انغماس «المُتلقي» فيها، وأن المُكوّنات المتشابكة في النص أفقدت المُتلقي السيطرة على حياته الفعلية لمصلحة ما هو خيالي ومتوهم (ولا أقول «افتراضي» Virtual بالمعنى الآتي من التقنيات الرقمية، لأنه متمايز كلياً عن الخيال والوهم). ويكتمل نسيج «ألف ليلة وليلة» بأن «المُتلقي» تزوّج مع مُبدِعة النص. في معنى مجازي فنياً، يبدو الزواج كأنه فعل تماهٍ بين المتلقي ومُبدع النص الفني (شهرزاد) من جهة، وأنه مملوء بالاستقلالية والتمايز أيضاً، إضافة الى كونه تفاعليّاً بامتياز. هناك لعبة مرايا متقابلة، لكنها فوّارة بالتفاعل، بين هذا النص الإبداعي («ألف ليلة وليلة) والمُتلقي - المنغمس (شهريار)، الذي صار أيضاً جزءاً منه، بل بطله خيالاً وعيشاً في آن معاً.
بورخيس و«النص الفائق الترابط»
قبيل غيابه، عبّر الروائي خورخي بورخيس عن «خيبة» وجودية مُضمرة في الأدب، أمام تحدّي صوغ نص إبداعي يصل بمتقليه الى هذه الدرجة من الانغماسية، إضافة الى كون النصّ شبكة معقدة من حكايا الخيال، يتضمّن بعضها شعراً، ما يجعلها تجمّعاً لأكثر من شكل أدبي. ثمة مفارقة. قبل اختراع الانترنت، تخيّل بورخيس شيئاً مُشابهاً لها، عندما فكّر في المكتبات وكتبها، مُتسائلاً عما إذا كانت تتداخل مع بعضها بعضاً وتتشابك. لم يكن «النص الفائق الترابط» («هايبر تكست» Hyper Text) قد ظهر حين شطح الخيال ببورخيس إلى هذا الحدّ، الذي صار الآن بديهياً وفائق العاديّة. ولعل من يعرف أبجديات الرقمية، يعرف أن «النص الفائق الترابط» هو الذي صنع شبكة الـ«ويب» العنكبوتية الالكترونية، التي تنسج أليافها الضوئية حول الكرة الأرضية في شبكة هائلة.
لنسِر إلى مساحة اخرى. ينتصب «الحكواتي» في المقهى، وهو مكان لتلاقي شبكة اجتماعية تتناقل أخباراً شفاهية متنوّعة. بالجسد والصوت، وأحياناً كثيرة بمؤثر بصري (العصا)، يسرد الحكواتي نصاً بحكايات مُركّزة على موضوع بعينه، لنقل إنها سيرة عنترة بن شداد أو السيرة الهلالية وبطلها أبو زيد الهلالي. يتجمّع المتلقوّن في شبكة المقهى. (تلميح مقصود، لأن التشبيه الأبسط للشبكات الرقمية المعاصرة كـ«فايسبوك» هو المقهى الشعبي). ينقسمون الى مجموعات. بعضها تساند عنترة. وتتماهى اخرى مع أبو زيد الهلالي. وتتابع ثالثة الأمور بحماس وترقب. يصل انغماس «المُتلقين» مع النص الإبداعي الى حدود مهمّة. مثلاً، عندما يصل «الحكواتي» إلى عرس عنترة، يزدان المقهى بما يتناسب مع خيال النص. يحاول أنصار أبو زيد تخريب «العرس» الوهمي، فيلغون الحدود بين الخيال والواقع، عبر انغماس تفاعلي مع نص شفاهي يؤدّى في طريقة شبه مسرحيّة، ضمن نوع مباشر من الشبكات الاجتماعية (المقهى).
لنسِر في الزمان بسرعة. قبل ثلاث سنوات، أمسك نص تفاعلي بخيال ومشاعر وبواطن واستيهامات الجمهور الرقمي، عبر نصوص حكائية تحوّل «المُتلقي» إلى شخصية محورية في الحكاية. حمل هذا النص الإبداعي إسم «فارم فيل» Farm Ville. حسناً، ربما قلّة لم تسمع به، لكنه لعبة إلكترونية ترتكز على أن المُشارِك بها يُصبِح محورها. يشتري أرضاً افتراضية ويزرعها ويفلحها ويربي فيها مواشي ويجني منها محاصيل. وينغمس «المُتلقي»، بخياله واستيهاماته وبواطنه وذائقته وبواطنه، في اللعبة إلى حدّ أنها تصبح واقعاً يعيشه فعلياً. لنشددّ. إن ما يصبحُ «فعلياً»، ويكفّ عن كونه افتراضياً (بالمعنى المقصود في التقنيات الرقمية) وخيالياً بالمعنى اللغوي الأكثر شيوعاً، هو الانغماس في النص التفاعلي (وهو لعبة إلكترونية في هذه الحال)، المكتوب بأسلوب اللعبة، وبوسائط رقمية، تشمل الصورة والصوت والأفلام القصيرة، مع مُكوّنات اخرى.
تجديد «التمثيل»
Representation فنيّاً
لنحاول جمع ما تفرّق.»ألف ليلة وليلة». حكواتي مع عنترة وأبو زيد الهلالي. لعبة «فارم فيل». ثمة خيوط كثيرة يتوجّب تفكيك نسيجها، للتعرّف على هذا النسج المُتشابك. وبين هذه الأشياء الثلاثة، قبلها وبعدها، هناك الابتكار الفنيّ بأشكاله كافة، من النحت والمسرح اليوناني، إلى الشعر والرواية والقصة القصيرة وغيرها.
هناك خيط أول. تبدّلت وسائط الفن والإبداع (وهي أيضاً وسائط المعرفة) مراراً وتكراراً في التاريخ. انتقلت الكتابة من النحت على الحجر (من ينسىَ تمثال «الكاتب» الفرعوني؟) الى البردية والرقعة ثم الورق فالكتاب المطبوع. تنقل «تمثيل» الفن، أي التعبير عنه وبالمعنى المُشار إليه بكلمة «ريبرزينتايشن» Representation، من المسرح الإغريقي الى السينما والتلفزيون. في الشفاهة، ظهرت الملحمة شكلاً للتمثيل الفني، على الأقل في ما هو مأثور عن الفن. ثمة أنواع من الشعر في عصر الشفاهة، وُثقّ كثير منه لاحقاً في عصر الورق. لا حدود للتبدّل في الموسيقى مع تبدّل وسائطها، وظهور الآلات المتنوّعة. وبكثرة تنبو عن الوصف، تبدّل الشعر أشكالاً وألواناً في زمن الورق وحده، ووثق ما يُفترض أنه أُبدِع في عصر المُشافهة، وكذلك أعاد نشر وتعميم نصوص نُقِشَت على الوسيط الحجري. لماذا لم تقدْ تلك التبدّلات إلى نقاشات عاصفة وأساسية، بمعنى أنها تركّز كثيراً على أساس عملية الإبداع الفني، على غرار ما رافق ظهور الرقمي؟ (استطراداً، هل هذا السؤال صحيح؟) ربما في صيغة كبيرة وضخمة يكون الجواب إيجاباً، لكن الأرجح أن الدخول في بعض التفاصيل، يقود الى العكس. ألم تصل إلى الحجر نصوصٌ تلاحظ أن الانتقال من الشفاهة الى النقش، يُضعف أهمية العنصر البشري (الراوي)، ويهوي بمكانة الذاكرة عند البشر؟
عندما وصل الأمر الى الرقمي، انفجرت النقاشات بمحمولاتها، وكأنما هي تريد أن «تُفاجئ» نفسها، من شدّة سعيها للوصول إلى «قعر» الأشياء في الفن، بمعنى الى الأصل والأساس.
لا تخلو بعض تلك النقاشات من الانشداه، على غرار مؤتمر «النصّ الجديد ما بعد قصيدة النثر» في القاهرة. مثلاً، ماذا تعني عبارة مثل «النقد الإلكتروني»؟ ماذا يعني القول إن الآلة صارت «شريكاً فاعلاً» في النص الإبداعي؟ من الواضح أنها أقوال مُنشدِهةٌ بالذكاء الاصطناعي للكومبيوتر، لكنها لا تعرف أنه ما زال عاجزاً عن الفهم الفعلي للنصوص، فما بالك بإبداعها، حاضراً. ما زالت الآلات الذكيّة عاجزة عن اجتياز أساسيّات الحدود التي تَقرّها آلان تورينغ، عالِم الذكاء الاصطناعي الذي عاش حلم الآلات المُبدعة كالبشر، لكنها لم تظهر لحد الآن. ثمة عمل ضخم ومستمر في المعلوماتية للارتقاء بمحركات البحث الى مستوى «فهم» اللغة الطبيعية وسياقاتها ومعانيها ومبانيها وتراكيبها. لكن، ما زال الأمر غير متحقق. وفي انشداهٍ صَعبٌ، خصوصاً أنه يأتي من نخب في العالم الثالث المستهلك للتقنية، جرى القفز الى الآلة التي تشارك في الإبداع!
عن النص الانغماسي
في المقابل، بدا واضحاً أنّ صوتاً جاء من العالم المتقدّم إلى ذلك المؤتمر، بدا أكثر قرباً إلى وقائع الأمور. إذ تحدّث الألماني راؤول إيشلمان عن «الأدائية» Performatisme، بالمعنى الذي يمكن وصفه بمصطلح «الانغماسية» Immersive أيضاً. في المعلوماتية، هناك تقنية توصف بأنها انغماسية، بمعنى أنها تستولي على من تصل إليه، لأنها تخاطب حواسه وتفكيره بصور متنوّعة، مثل الصورة والصوت والنص المكتوب والحسّ المباشر عبر نبضات كهربائية تضرب الجلد مثلاً، وغيرها. في الإبداع الفني غرباً، تسير الأمور نحو الانغماسية بصورة متنامية وواعية. مثلاً، وُصِفَت رواية «النُجاة» («سيرفايفورز» Survivors) للكاتبة الأميركية أماندا هارفرد بأنها أول رواية انغماسية، بمعنى انها نص مكتوب تعزّزه تقنيات الكومبيوتر عبر «بثه» في وسائط متنوّعة تشمل الأفلام القصيرة والرسوم التفاعلية والصوت وغيرها. وبديهي القول إن الرواية تحوّلت الى تطبيق رقمي («أبليكايشن» Application) يوضع على الخلوي والأجهزة الذكيّة والـ«فايسبوك» وغيرها.
هناك بُعدٌ آخر في التعددية. تكتب النصوص كي تكون على هيئة قريبة من الألعاب الإلكترونية، مثل «فارم فيل»، فتتمتع بمستويات متنوّعة، وتكون لها أكثر من عقدّة ومسار. إنه أمر جديد كليّاً، ويحدث بفضل إبداع صانع النص، الذي صار يكتب نصّه (أو جموع نصوصه المترابطة رقمياً) بوسائط متنوّعة، يجمعها الرقمي. لا مناص من الإشارة الى ان أحد أبرز ميّزات الرقمي هي قدرته على تحويل الوسائط كلها في وسط موحّد. تكتِب نصّاً وتُفرّعه الى حبكات ومستويات، مترابطة إلكترونياً، وتُدخل براوبط الـ«هايبر تكست» الصور والأفلام والأغاني ومقتطفات من التلفزة والحفلات والوثائق البصرية وغيرها. ولا تنسى أن تحوّله الى تطبيق رقمي للأجهزة المحمولة.
ثمة مقلب آخر. «المُتلقّي». بديهي القول إنه لم يعد متلقياً سلبياً، إضافة الى كونه معتمداً بقوة على الثقافة البصرية ومُكوّناتها. واضح هذه الأمور من الشاشات المتعددة التي باتت لا تفارق الأيدي والعيون. ثمة ملمح آخر في «المُتلقّي» الرقمي: إنه شبكي تماماً في ممارساته الرقمية من ناحية، وهو «يبث» نفسه بشكل متعدّد عبر الوسيط الرقمي، الذي يسعى النص الإبداعي للوصول إلى الجمهور الرقمي عبره. يستند «المُتلقّي» - التفاعلي الى شبكات رقمية، وعلى حساب الثقافة التقليدية وأشكالها، لكنه أيضاً يبث نفسه عبرها. نموذج؟ «فايسبوك» و«تويتر». ولا ننسى أن الأجيال الشابة لم تعد تُكرّر ممارسات الأجيال التي سبقتها، مثل قراءة جريدة الصباح، ما يعني تغييراً في انتقال الثقافة بين الأجيال أيضاً. الأرجح أن هذه المناحي من التلقي - التفاعلي - الانغماسي (الشبكة - المجتمع، بثُ الذات وتضخيمها وتضاعف فرديتها، ثقافة البصرية المندمجة في النص، تنوّع الأحاسيس التي تتلقى النص)، هي التي يجدر إثارة نقاش ثقافي عنها أيضاً، بدل الاكتفاء بالاشارة الى الجمهور، والنصوص القصيرة على الخلوي، كما فعل مؤتمر «النص الجديد...».
في الغرب، يتمحوّر النص الجديد للعصر الرقمي حاضراً حول الانغماسية ونصوصها. واستطراداً، يمكن النظر إلى بعض تحوّلات أفلام السينما. لماذا أصبحت تميل الى تقليد الألعاب الالكترونية في أكثر من منحى، لا يبتدئ من تصاعد التسلسل (مثال: «هاري بوتر» و«قراصنة الكاريبي» و«مغامرة الشفق لمصاصي الدماء»)، ومروراً بالأبعاد الثلاثية في الصــورة، ووصولاً إلى تحوّل أفلام الى ألعاب إلكــترونية («دجانغو أنشيند») وبالعكس (أولها ربمــا «تومب رايدر» وأقربهــا «هانغــر غيمز ـ ألعــاب الجوع»). لأن الوسيط الرقمي يجمع الأشياء كلها عبر تحويلها الى ملفات رقمية، يســتند النــص الجديد إلى هذه الأشيــاء كلها في مخاطبــته الجمهور المتلقي - التــفاعلي، عبر «نص» متنوّع الوسائط وانغماســي، لا تشــارك في صنــعه الآلات...ليس بعد!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق