بحث هذه المدونة الإلكترونية

24‏/02‏/2023

غروبُ القصيدة وغياب السجالات الشعرية

جودت فخر الدين


جودت فخر الدين

لقد باتت الكتابةُ الشعريةُ العربيةُ، في معظمها، تتنكَّرُ للقصيدة! وما هذا التنكُّرُ في رأيي، إلا نوعٌ من الضّعف أو القصور أو التراجع، وإنْ كان بعضُ الكتّاب يدّعون فيه خياراً أو اتجاهاً فنياً. وكأنّ القصيدة، في نظَر هؤلاء المدّعين،لا تصلحُ (أو لم تعُدْ تصلحُ) حضْناً للشعر.
ولنتّفقْ، في بداية حديثنا هذا، على أنّ المقصودَ بالقصيدة هو النظامُ المحكَمُ في الكتابة الشعرية، الذي يقومُ على عناصرَ عديدة، منها العنصرُ اللغويُّ والعنصرُ البلاغيُّ والعنصرُ الموسيقيُّ ... وغيرها.
كما تنبغي الإشارة إلى أنّ الشعر له مفاهيمُ كثيرة، وأنه ـ في مفهومه الواسع ـ ليس محدوداً بالقصائد، بل يمكنُهُ أنْ يوجدَ في ما لا حدودَ له، وخصوصاً في الفنون على أنواعها، كالرسم والموسيقى والمسرح ... الخ.
لهذا، ينبغي التفريقُ بين الشعر والكتابة الشعرية. وقد يصحُّ القولُ إنّ القصيدة هي البناءُ أو الشكلُ الذي تُنشئُهُ الكتابةُ الشعريةُ، احتضاناً للشعر أو تعبيراً عنه. أليس هذا ما نقصدُهُ في قولنا: القصيدةُ قطعةٌ شعرية؟ إذاً، الرغبةُ عن القصيدة هي رغبةٌ عن النظام (أو البناء أو الشكل). أو لنقُلْ هي رغبةٌ في شعر ٍبلا نظام (أو بلا بناء أو بلا شكل). وإذا كان الشعر موجوداً في كلِّ شيء، ويمكنهُ أنْ يوجدَ في داخل القصائد أو في خارجها، فما الذي يفرِّقُ الكتابةَ الشعريةَ عن غيرها من الفنون؟ أو بالأحرى: لماذا الكتابةُ الشعرية؟ وقبل عصور الكتابة، ألم تكن (الشفويةُ) في التعبير الشعري، خصوصاً في تراثنا العربي، فناً في النظم، أي في تأليف القصائد؟
نعودُ الآن إلى ملاحظتنا التي بدأنا بها، المتعلّقة بالتنكُّر للقصيدة في معظم الكتابات الشعرية العربية في أيامنا هذه. مع الإشارة إلى أنّ هذا التنكُّر ليس كاسحاً، وإنما هنالك قلّةٌ من الشعراء لا يزالون يدأبون على كتابة القصيدة، محتفين بها نظاماً للشعر. وفي كلامنا هذا لا نفرِّقُ بين كتّاب الشعر انطلاقاً من الوزن. فالقصيدة يمكنُها أنْ تكون موزونةً، ويمكنُها أيضاً أن تكون بلا وزن.
لقد ظلّت القصائدُ غايةً للكتابات الشعرية في العديد من الآداب الغربية، وخصوصاً في الأدب الفرنسي، وبالأخصّ منذ بودلير الذي عُدَّ في بعض ما كتبَهُ بدايةً لقصيدة النثر. لقد شاعت التسميةُ هذه، «قصيدة النثر». هكذا جرى التخلّي عن الوزن، وظلَّ التمسُّكُ بالقصيدة.
إذاً، لا أفرِّقُ في كلامي على القصيدة ِوالتنكُّر ِلها بين شعراء الوزن وشعراء النثر. بكلمة ٍأخرى، لا أقولُ إنّ الوزن هو عنصرٌ ضروريٌّ وحاسمٌ للقصيدة، وبدونه لا تكونُ القطعةُ الشعريةُ قصيدةً. لا أقولُ ذلك وإنْ كنتُ ـ شخصياً ـ أكتبُ القصيدة الموزونة، وأتفنّنُ في استعمال الوزن تعبيراً عن رغبتي في البناء، أو في الشكل.
إنّ الذين يتنكّرون للقصيدة هم ـ في نظري ـ من لا يملكون الإمكانات المطلوبة لبنائها. ومن يتقصّى الكتابات الشعرية العربية في العقود القليلة الماضية يمكنُهُ أنْ يتثبّت من ذلك، يمكنُهُ أنْ يلاحظَ الضعفَ في معظم هذه الكتابات، ليس من النواحي المتعلقة بموسيقى الشعر فقط، وإنما أيضاً من النواحي المتعلّقة باللغة والبلاغة... وغيرهما.
نظامُ القصيدة ليس تقييداً للشعر. النظامُ هو شخصيةُ الكتابة الشعرية. ومن المؤسف أنّ معظم الكتابات الشعرية العربية باتت اليومَ بلا شخصية. تكادُ تغيبُ القصائدُ اليوم. وربما يصحُّ القولُ إنّ ما يطْغى اليومَ في ساحتنا الشعرية هو كتابةٌ بلا شكل. وهنالك من يروِّجون عندنا للكتابة بلا شكل، أي لغياب القصيدة أو غروبها. كأنهم لم يختاروا سوى السهولة أو الاستسهال. كأنهم رموْا إلى تجنُّب ما لا قِبَلَ لهم به. كأنهم عبَّروا، في ترويجاتهم تلك، عن عدائهم لِما يجهلون.
هل تغيبُ القصيدةُ ويبقى الشعر؟ ربما يكون هذا جائزاً إذا نظرْنا إلى الشعر في مفهومه الواسع، الذي يتعدّى اللغة. أما إذا نظرْنا إليه كفنّ ٍلغويّ،أين نجدُهُ؟ ألا نجدُهُ في القصائد؟ وعندما نقولُ «الأعمال الشعرية»، ألا نقصدُ القصائدَ التي تنطوي كلُّ واحدة ٍمنها على نظامها الخاصّ؟
إنّ القصيدة هي حضورُ الشعر وقوّتُه. وما الترويجُ لغيابها أو غروبها إلا مظهرٌ من مظاهر الأزمة الثقافية التي نعيشها.

سجالاتٌ غائبة

إنّ التشوّش السائد اليومَ في ما يتعلّق بقضايا الأدب كلِّها، بمفاهيمه وتقنياته ومصطلحاته ومشكلات تقويمه... وغير ذلك، يفرضُ على العاملين عندنا في حقول الأدب أن يُطْلِقوا ـ في ما بينهم ـ سجالات ٍجادّةً وعميقةً، قد تكون الكتابةُ الشعريةُ محوراً أساسياً من محاورها. وذلك بعدما آلتْ هذه الكتابةُ إلى ما آلتْ إليه، من دون أنْ تحْظى بالتقويم السديد أو المناسب.
الساحةُ العربيةُ اليومَ مسرحٌ للسجالات الكثيرة والمتنوعة، في السياسة والدين وأشكال الحكْم والمشاكل الاجتماعية والعلاقات بين الشرق والغرب ... وغير ذلك. وحدَها السجالاتُ الأدبيةُ هي الغائبة. لماذا؟ هل لأنّ الأدب اليومَ متخلِّفٌ عن غيره من حقول الثقافة؟ والأحرى به أن يكون هو المتقدِّم على غيره من هذه الحقول! ألسنا في حاجة ٍإلى طرْح القضايا الجوهرية في الأدب، أسوةً بما بات يُطرحُ من قضايا جوهرية في غيره من الحقول؟ ولو أجريْنا مقارنةً بسيطةً بين أوضاعنا الراهنة والأوضاع التي سادت في منتصف القرن المنصرم، لوجدْنا أنّ الحماسة والحيوية اللتين عرفتْهما الحركةُ الأدبيةُ في ذلك الوقت باتتا مفتقَدتين اليوم. للأسف، أصبحنا نفتقد السجالات الأدبية التي من شأنها أن تطرح الأسئلة الجادّة والعميقة، بل نكاد في الأدب نُضيع مفهوم «السجال» ومعناه الحقّ، ومعنى «السجال» أو «التساجل» أو «المساجلة» قد يكون منطلِقاً من الشعر، أو بالأحرى من المجال الشعري. فالمساجلة كما وردَ في «محيط المحيط» هي عند الشعراء أن يتناشدَ الشاعران بيتاً فبيتاً أو شطراً فشطراً. والمساجلة بالمعنى العام، أي في الشعر وفي غيره من المجالات، هي المفاخَرة بما تنطوي عليه من تنافس ٍأو تَبار ٍأو تسابُق. هل نجدُ لهذا المعنى حضوراً في السجالات الشعرية الراهنة؟ للأسف لم يبقَ اليومَ سوى ذلك السجال السطحي الذي عفا عليه الزمن بين دعاة الوزن ودعاة التخلّي عنه، أو بالأحرى بين الذين يروْن في الوزن عنصراً أساسياً للشعر، وبين الذين يروْن فيه عنصراً بائداً أو تقليدياً. وفي السجال بين هؤلاء وأولئك تضيع الكتابة الشعرية، وتكاد تُفرِّطُ بقضاياها الجوهرية وتسقطُ في تخبُّط ٍيسمحُ للمتطفلين، في هذا الجانب أو ذاك، بأن يتسلّلوا إلى ميدان الكتابة أو التنظير أو النقد وبأن يحتلّوا أحياناً، ويا للطرافة، صدارةَ المشهد الأدبي.
لقد تناول أسلافُنا من النقاد والبلاغيين قضية الوزن في الشعر بتبصُّرٍ وتعمُّق. وقد بلغَ الأمرُ ببعضهم أن قَبِلَ بنظْم ٍ شعريّ ٍلا يلتزمُ بنظام ٍوزنيّ ٍ معيّن. معنى ذلك أنّ بعض النقاد والبلاغيين من أسلافنا قبلوا الشعر بالنثر، أي قبلوا شعراً منثوراً، مميِّزين في ذلك بين «الشعر» و«القصيدة». وذلك قبل قرون ٍمن التنظير لقصيدة النثر في الآداب الأجنبية، وبعدها في الأدب العربي. فما بالنا لا نجدُ اليومَ إلا سجالاً واحداً يقسمُ كتّابَ الشعر عندنا إلى قسمين؟ ألا وهو السجال بين دعاة القصيدة الموزونة ودعاة قصيدة النثر. أين هي الأسئلة الكبيرة التي رافقت المراحل الأولى لحركة الشعر العربي الحديث؟ أين هي الأسئلة التي انطلقَ منها ذلك المشروع التغييري الذي سعى إلى تطوير اللغة الشعرية وتحويلها في اتجاهات ٍشتى؟ ليس المطلوب استعادة الأسئلة نفسها، وإنما المطلوب استعادة قدْر ٍمن الحيوية لإطلاق مشروع ٍتغييريّ ٍجديد، من شأنه أنْ يبتكرَ أسئلته الجديدة.
أدبُنا اليومَ يحتاج إلى تحوّلات ٍنوعية. عليه الانخراط في مشاريع جديدة. لماذا إذاً لا تنطلِقُ في ساحته سجالاتٌ حول مختلف قضاياه؟ طالما أنه محاطٌ في هذه المرحلة بأنواع ٍكثيرة ٍمن السجالات، في حقول ٍغير حقله.

15/02/2
013 العدد: 12407 السفير

ليست هناك تعليقات:

الأكثر مشاهدة